وقوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ]{[6221]} } أي : الذين توعدهم الناس [ بالجموع ]{[6222]} وخوفوهم بكثرة الأعداء ، فما اكترثوا لذلك ، بل توكلوا على الله واستعانوا به { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
قال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس ، أراه قال : حدثنا أبو بكر ، عن أبي حَصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله ، كلاهما عن يحيى بن أبي بُكَير ، عن أبي بكر - وهو ابن عياش - به . والعجب أن الحاكم [ أبا عبد الله ]{[6223]} رواه من حديث أحمد بن يونس ، به ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6224]} .
ثم{[6225]} رواه البخاري عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم ، عليه السلام ، حين ألقي في النار : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }{[6226]} .
وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا ، عن الشَّعْبِي ، عن عبد الله بن عمرو قال : هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في البنيان . رواه ابن جرير .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري{[6227]} أخبرنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري ، أنبأنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . فأنزل الله هذه الآية{[6228]} .
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عُبَيد الله الرافعي ، عن أبيه ، عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان ، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . فنزلت فيهم هذه الآية .
ثم قال ابن مَرْدُويه : حدثنا دَعْلَجَ بن أحمد ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، أنبأنا أبو خَيْثَمَة مُصْعَب بن سعيد ، أنبأنا موسى بن أعين ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا وَقَعْتُمْ فِي الأمْرِ العظيمِ فَقُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " {[6229]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا بَحِير{[6230]} بن سَعْد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن سيف ، عن عوف بن مالك أنه حدثهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل . فقال رسول الله{[6231]} صلى الله عليه وسلم : " رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ " . فقال : " ما قلتَ ؟ " . قال : قلتُ : حسبي الله ونعم الوكيل . فقال رسول الله{[6232]} صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " .
وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بَحِير ، عن خالد ، عن سَيْف - وهو الشامي ، ولم ينسب - عن عوف بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[6233]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا مُطَرِّف ، عن عَطية ، عن ابن عباس [ في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [ المدثر : 8 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ ، يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ " . فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : فما نقول{[6234]} ؟ قَالَ : " قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا "
وقد روي هذا من غير وجه ، وهو حديث جيد{[6235]} وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب [ بنت جحش ]{[6236]} رضي الله عنهما ، أنهما تفاخرتا فقالت زينب : زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن{[6237]} وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن . فَسَلَّمَت لها زينب ، ثم قالت : كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل ؟ فقالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقالت زينب : قلت كلمة المؤمنين{[6238]} .
ولهذا قال تعالى : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي : لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمَّهُمْ وَرد عنهم بأس من أراد كيدهم ، فرجعوا إلى بلدهم { بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } مما أضمر لهم عدوهم { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد ، حدثنا محمد بن نُعَيم ، حدثنا بِشْر بن الحكم ، حدثنا مُبشِّر بن عبد الله بن رَزِين ، حدثنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى{[6239]} { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } قال : النعمة أنهم سلمُوا ، والفضل أن عيرا مرت ، وكان في أيام الموسم ، فاشتراها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } قال : [ هذا ]{[6240]} أبو سفيان ، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : موعدكم بدر ، حيثُ قتلتم أصحابنا . فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " عَسَى " . فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعِده{[6241]} حتى نزل بدرًا ، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا{[6242]} فذلك قول الله عز وجل : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ] {[6243]} } قال : وهي غزوة بدر الصغرى .
رواه ابن جرير . وروى [ أيضا ]{[6244]} عن القاسم ، عن الحُسَين ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيج قال : لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش ، فيقولون{[6245]} قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك ، يريدون أن يرْعَبُوهم{[6246]} فيقول المؤمنون : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدرا ، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد ، قال : رَجُل{[6247]} من المشركين فأخبر أهل مَكَّة بخيل محمد ، وقال في ذلك :
نَفَرَتْ قَلُوصِي من خُيول محمد*** وَعَجْوَةٍ منْثُورةٍ كالعُنْجُدِ
واتَّخَذَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
ثم قال ابن جرير : هكذا أنشدنا القاسم ، وهو خطأ ، وإنما هو : قَد نَفَرَتْ من رفْقَتي محمد*** وَعَجْوَة مِنْ يَثْربٍ كَالعُنْجُد
تَهْوى{[6248]} عَلَى دين أبِيها الأتْلَد*** قَدْ جَعَلَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
وَمَاء ضَجْنَان لَهَا ضُحَى الغَد{[6249]}
{ الذين } صفة للمحسنين المذكورين ، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين حملهم أبو سفيان ذلك ، وقد ذكرته قبل{[3719]} ، ف { الناس } الأول ركب عبد القيس و { الناس } الثاني عسكر قريش ، وقوله تعالى : { فزادهم إيماناً } ، أي ثبوتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال ، وأطلق العلماء عبارة : أن الإيمان يزيد وينقص ، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما ، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال : يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص ، لا سيما أن كثيراً من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ، وذهب قوم : إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان ، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور النقص بالإضافة إلى الأعلم ، وذهب قوم من العلماء : إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة ، فتزيد الأدلة عند واحد ، فيقال في ذلك : إنها زيادة في الايمان ، وهذا كما يقال في الكسوة ، إنها زيادة في الإيمان ، وذهب أبو المعالي في الإرشاد : إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو بثبوت المعتقد وتعاوره دائباً ، قال : وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، يصحبه حيناً ويفارقه حيناً في الفترة ، فذلك الآخر أكثر إيماناً ، فهذه هي الزيادة والنقص .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وفي هذا القول نظر{[3720]} .
وقوله تعالى : { فزادهم إيماناً } لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة ، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث ، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان ، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم ، وأخبر بذلك أيضاً أعرابي ، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا { حسبنا الله ونعم الوكيل }{[3721]} فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء ، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا{[3722]} .