في قوله : " الذين " ما تقدم في : " الذين " قبله ، إلا في رفعه بالابتداء .
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى ، روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ - قال : يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى ، فنقتتل بها - إن شِئْتَ - فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : قُلَ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ الله - فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ ، حتى نزل " مجنة " من ناحية " مَرِّ الظهران " فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه ، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الأشْجَعِيّ - وقد قَدِم معتمراً - فقال أبو سفيان : يا نعيمُ ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ ، وإن هذا عام جَدْبٍ ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ - ولم أخرُجْ - زاد بذلك جُرْأةً ، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ إليّ من أنْ يكون من قِبَلي ، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُمْ ، ولك عندي عشرةٌ من الإبل ، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها . قال : فجاء سُهَيلٌ ، فقال له نعيمٌ : يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصَ ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه ؟ قال : نَعَمْ ، فخرج نُعَيْمٌ ، حتى أتى المدينة ، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان ، فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الذي رأيتم ، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم إلا الشريد ، أفتريدون أن تخرجوا إليهم ؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، وقد جمعوا لكم عند الموسم .
فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم ، فلما عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال : " والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي " . فأما الجبان فإنه رجع ، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ ، وقالوا " حسبنا الله ونعم الوكيل " . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نحو سبعين رجلاً - فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى - وهي ماء لِبَني كنانةَ ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم ، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام - ولم يَلْقَ رسولُ الله - وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً ، وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . ورجع أبو سفيان إلى مكة ، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . " هذا سبب نزول الآية{[6198]} .
والمراد ب " الناس " نُعَيم بن مسعود - في قول مجاهد وعكرمة - فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ ، كقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } [ النساء : 54 ] يعني محمداً وحده ، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ " الناس " على الواحد ؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله ، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن - حينئذٍ - إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقال : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] وهم لم يفعلوا ذلك ، وإنما فعله أسلافهم ، إلا أنهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ ، حَسُن إضافة ذلك إليهم .
وقال ابنُ عَبَّاس ، ومحمد بن إسحاقَ ، وجماعة : أراد بالنّاسِ : الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ " قد جمعوا لكم " يعني أبا سفيان وأصحابه{[6199]} .
وقال السُّدِّيُّ : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين - حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان - : القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم ، فقتلوا أكثركم ، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً " فاخشوهم " أي : فخافوهم{[6200]} .
قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } في فاعل " فزادهم " ثلاثة أوجهٍ :
الأول - وهو الأظهرُ - : أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من " قال " أي فزادهم القول بكيتَ وكيتَ إيماناً ، كقوله : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .
الثاني : أنه يعود على المقول - الذي هو { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً .
الثالث : أنه يعود على " الناس " إذا أريد به فَرْدٌ واحد - كما نُقِل في سبب النزول - وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ .
واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ ، قال : " وهما ضعيفانِ ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به ، لا هو في نفسه ، ومن حيثُ إنَّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد . تقول : مفارقه شابت - باعتبار الإخبار عن الجمع - ولا يجوز : مفارقة شاب - باعتبار : مَفْرِقُهُ شَابَ " .
قال شهابُ الدّين{[6201]} : وفيما قاله نَظَر ؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان - وأما قولُهُ : تجري على الجمع ، لا على المفرد ، فغير مُسَلَّم ، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً ، ومعناه تارةً أخْرَى ، فأجازوا : رؤوس الكبشينِ قطعتهن ، وقطعتهما ، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى ، فليَجز في الواقع موقع المفرد . ولقائلٍ أن يفرق بينهما ، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية - المعبِّر عنها بلفظ الجمع - لقربها منه ؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله . بخلاف المفرد ، فإنه بعيدٌ من الجمع ؛ لعدم الضمِّ ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ .
قال أبو العَبّاس المُقْرئ : لفظ " الوكيل " في القرآن على وجهينِ :
الأول : بمعنى المانع - كهذه الآية - ومثله قوله :
{ فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] أي : مانعاً .
الثاني : بمعنى : الشاهدِ ، قال تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ النساء : 81 ، 132 ، 171 ] أي : شهيداً ، ومثله قوله : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] أي : شاهد ، ومثله : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيد .
قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ } [ آل عمران : 173 ] عطف " قالوا " على " فزادهم " والجملة بعد القول في محل نَصْب به .
قوله : { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } المخصوصُ بالمدحِ ، أي : الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.