اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ} (173)

في قوله : " الذين " ما تقدم في : " الذين " قبله ، إلا في رفعه بالابتداء .

وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى ، روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ - قال : يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى ، فنقتتل بها - إن شِئْتَ - فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : قُلَ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ الله - فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ ، حتى نزل " مجنة " من ناحية " مَرِّ الظهران " فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه ، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الأشْجَعِيّ - وقد قَدِم معتمراً - فقال أبو سفيان : يا نعيمُ ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ ، وإن هذا عام جَدْبٍ ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ - ولم أخرُجْ - زاد بذلك جُرْأةً ، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ إليّ من أنْ يكون من قِبَلي ، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُمْ ، ولك عندي عشرةٌ من الإبل ، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها . قال : فجاء سُهَيلٌ ، فقال له نعيمٌ : يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصَ ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه ؟ قال : نَعَمْ ، فخرج نُعَيْمٌ ، حتى أتى المدينة ، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان ، فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الذي رأيتم ، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم إلا الشريد ، أفتريدون أن تخرجوا إليهم ؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، وقد جمعوا لكم عند الموسم .

فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم ، فلما عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال : " والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي " . فأما الجبان فإنه رجع ، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ ، وقالوا " حسبنا الله ونعم الوكيل " . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نحو سبعين رجلاً - فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى - وهي ماء لِبَني كنانةَ ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم ، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام - ولم يَلْقَ رسولُ الله - وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً ، وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . ورجع أبو سفيان إلى مكة ، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . " هذا سبب نزول الآية{[6198]} .

والمراد ب " الناس " نُعَيم بن مسعود - في قول مجاهد وعكرمة - فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ ، كقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } [ النساء : 54 ] يعني محمداً وحده ، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ " الناس " على الواحد ؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله ، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن - حينئذٍ - إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقال : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] وهم لم يفعلوا ذلك ، وإنما فعله أسلافهم ، إلا أنهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ ، حَسُن إضافة ذلك إليهم .

وقال ابنُ عَبَّاس ، ومحمد بن إسحاقَ ، وجماعة : أراد بالنّاسِ : الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ " قد جمعوا لكم " يعني أبا سفيان وأصحابه{[6199]} .

وقال السُّدِّيُّ : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين - حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان - : القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم ، فقتلوا أكثركم ، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً " فاخشوهم " أي : فخافوهم{[6200]} .

قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } في فاعل " فزادهم " ثلاثة أوجهٍ :

الأول - وهو الأظهرُ - : أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من " قال " أي فزادهم القول بكيتَ وكيتَ إيماناً ، كقوله : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .

الثاني : أنه يعود على المقول - الذي هو { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً .

الثالث : أنه يعود على " الناس " إذا أريد به فَرْدٌ واحد - كما نُقِل في سبب النزول - وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ .

واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ ، قال : " وهما ضعيفانِ ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به ، لا هو في نفسه ، ومن حيثُ إنَّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد . تقول : مفارقه شابت - باعتبار الإخبار عن الجمع - ولا يجوز : مفارقة شاب - باعتبار : مَفْرِقُهُ شَابَ " .

قال شهابُ الدّين{[6201]} : وفيما قاله نَظَر ؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان - وأما قولُهُ : تجري على الجمع ، لا على المفرد ، فغير مُسَلَّم ، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً ، ومعناه تارةً أخْرَى ، فأجازوا : رؤوس الكبشينِ قطعتهن ، وقطعتهما ، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى ، فليَجز في الواقع موقع المفرد . ولقائلٍ أن يفرق بينهما ، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية - المعبِّر عنها بلفظ الجمع - لقربها منه ؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله . بخلاف المفرد ، فإنه بعيدٌ من الجمع ؛ لعدم الضمِّ ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ .

فصل

قال أبو العَبّاس المُقْرئ : لفظ " الوكيل " في القرآن على وجهينِ :

الأول : بمعنى المانع - كهذه الآية - ومثله قوله :

{ فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] أي : مانعاً .

الثاني : بمعنى : الشاهدِ ، قال تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ النساء : 81 ، 132 ، 171 ] أي : شهيداً ، ومثله قوله : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] أي : شاهد ، ومثله : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : شهيد .

قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ } [ آل عمران : 173 ] عطف " قالوا " على " فزادهم " والجملة بعد القول في محل نَصْب به .

قوله : { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } المخصوصُ بالمدحِ ، أي : الله تعالى .


[6198]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/409، 410، 411، 412) مفرقا وذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (9/80 ـ 81).
[6199]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/410) عن ابن عباس وذكره الرازي في "التفسير الكبير" (9/81).
[6200]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (9/81).
[6201]:ينظر: الدر المصون 2/261.