وقوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) المقصود بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا ، فقال له أبو سفيان : يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي ، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل . فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأي . أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد . أفتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم فوالله لا يفلت منكم أحد . فقال المسلمون : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) هكذا قال المسلمون عقب تثبيط المثبطين بما توعدوهم به من جموع المشركين الكثيرة فلم يعبأوا بهم ، ولم يكترثوا لهم ، بل توكلوا على الله واستعانوا به ، فلم يثنهم ترعيب ولا تخويف ، ولم تزلزهم أراجيف المثبطين والمنافقين . وما زادهم ذلك إلا تصديقا ويقينا في دينهم وحفزهم على البذل والاستعداد والجراءة بما هو أعظم . وذلك هو شأن المؤمنين الصادقين المخلصين الذين تشتد من حولهم الأهوال والخطوب وتزداد في وجوههم المضايقات والمثبطات وتتراكم من أمامهم ومن خلفهم المؤامرات والدسائس والمكائد ، لكنهم وسط هذه الأجواء الحوالك من الإرهاب وألوان الكروب ، لا يزدادون بذلك كله إلا التوكل على الله والمضي على الطريق الحق داعين إلى الله على بصيرة ، يحرضون الناس على التوجه إلى الإسلام . وهم كلما حز بهم بأس وازدادت من حولهم الأراجيف والمثبطات ، وأترعت البلاد بفقاقيع النفاق والمنافقين وانتفخت أوداج الساسة من الطغاة والمستبدين فراحوا يتربصون الدوائر بالدعاة إلى الله لينالوا منهم ألوانا من العذاب والتنكيل- إنهم وسط ذلك كله لا تلين قناة ، بل يلوذون إلى الله ويستعصون بحبله المتين ويتوكلون عليه تمام التوكل مرددين بغير انقطاع .
ومقالة ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) خ هذه المقالة قالها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار . وقالها محمد صلى الله عليه و سلم حين : ( قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) كذلك روى البخاري عن ابن عباس .
وقوله : ( فزادهم إيمانا ) ضمير الفعل ( فزادهم ) يعود إلى مقالة المثبطين . والتقدير هو : فزادهم ذلك القول إيمانا . وعلى هذا تكون الزيادة في الإيمان هنا هي في الأعمال .
أما هل يزداد الإيمان أو ينقص ؟ فقد قيل : الإيمان الذي هو ذات وجوهر ، أو هو الذي يعني التصديق ، وإنما هو معنى فرد لا يحتمل الزيادة أو النقصان ، بل إن الزيادة في ذات الإيمان تذهبه وكذا النقصان ، فأيما زيادة أو نقصان في معنى الإيمان أو في ذاته إنما تزول معه حقيقة الإيمان نفسه . وهو ما ذهب إليه جمع من العلماء . وقالوا : الزيادة أو النقصان إنما يكون في متعلقات الإيمان دون ذاته . وذلك في الطاعة والأعمال الصادرة عنه . أي أن الإيمان ليس المقصود به التصديق بل الطاعات .
وقيل : الإيمان يزيد وينقص وذلك في مراتبه وفي شعائره . وذلك إذا أريد بالإيمان أعمال القلوب كالنية والإخلاص والتقوى . لا جرم أن هذه مشاعر وإحساسات قلبية تتفاوت مقادريها لدى الناس مثلما تتفاوت أقدار البشر كالنبيين والصديقين والعلماء وسائر المسلمين . فإن المسلمين تتفاوت مراتب الإيمان فيما بينهم تفاوتا عظيما فإنه ربما انحدر مدى الإيمان في قلب المسلم حتى يكون في مثقال حبة الخردل . وربما علا في قلبه حتى يكون في حجم الراسية الشماء .
وثمة أسباب تفضي إلى زيادة الإيمان ، منها : سماع الموعظة البالغة التي تلج في سويداء القلب والمشاعر فتهزها هزا . ومنها : الحجج والبراهين الساطعة التي تحمل الذهن حملا لينا على التثبت والاستيقان . ومنها : طول التأمل في آيات الله الباهرة من كتابه الحكيم المعجز . فلا ريب أن التفكر مليا في آي القرآن ، وفي عباراته وكلماته وما يجلل ذلك ويتخلله من إيقاعات وجرس وحلاوة نغم- يؤثر في الإنسان أشد تأثير ، ويسكب في قلبه من برد الجمال والروعة والعذوبة ما يزيده إيمانا على إيمان . إلى غير ذلك من أسباب تفضي إلى زيادة الشحنات الإيمانية في قلوب الناس ، لكن انعدام ذلك أو بساطته لا جرم يفضي إلى نضوب الإيمان في الصدور أو هوانه حتى ما يبقى منه غير القدر اليسير .
ويستدل على زيادة الإيمان ونقصانه بظاهر الكتاب الحكيم ، ومن جملة ذلك قوله تعالى : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) {[640]} وكذلك قوله تعالى : ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) {[641]} وقوله تعالى : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) {[642]} .
وفي الأثر عن ابن عمر قلنا : يا رسول الله ! إن الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : " نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار " .
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأصحابه : هلموا نزدد إيمانا . فيذكرون الله تعالى .
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها{[643]} وهو ما يدل بظاهره على أن الإيمان يزيد وينقص . وهو ما نرجحه والله تعالى أعلم .
قوله : ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) حسبنا أي كافينا الله . نقول : حسبك درهم أي كفاك ، وشيء حساب أي كاف . ومنه عطاء حسابا أي كافيا .
ونقول : حسيبك الله ، أي انتقم الله منك . وكفي بالله حسيبا أي محاسبا أو كافيا{[644]} .
وقوله : ( ونعم الوكيل ) ( نِعْمَ ) . فعل ماض جامد لإنشاء المد . ( الوكيل ) فاعل نعم مرفوع . و ( الوكيل ) بمعنى الكفيل . وقيل : الكافي . أو الموكول إليه .
والمؤمنون دائما مطمئنون إلى قدر الله وحكمته وأنه جل وعلا لا يظلم الناس مثقال ذرة . وهم إذ يلوذون إلى الله يتضرعون إليه بالدعاء ويبثون إليه شكواهم وحزنهم كلما ضاقت بهم الحياة الدنيا أو ألمت بهم الإحن والشدائد قائلين : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حقا إنها خير ما يتفجر من الأفواه والقلوب المكلومة حين اشتداد البأس وتكالب العدوان والباطل . فالله جل جلاله كاف عباده المؤمنين المظلومين وهو كفيل بكشف البلاء والضر عنهم ودفع الطغاة والمتجبرين ليذيقهم نكال الدنيا وهوانها قبل أن تفجأهم صعقة القيامة بأهوالها المذهلة العظام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.