يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي : ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة ، وهذا يقوله مشركو{[26332]} العرب المنكرون للمعاد ، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البداءة{[26333]} والرجعة ، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه . وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول{[26334]} وكذبوا المنقول ، ولهذا قالوا{[26335]} { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال الله تعالى : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } أي : يتوهمون ويتخيلون .
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح ، وأبو داود ، والنسائي ، من رواية سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب ليله ونهاره " {[26336]} وفي رواية : " لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " {[26337]} .
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا ، يميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال : " ويسبون الدهر ، فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " {[26338]} .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن منصور ، عن شُرَيْح بن النعمان ، عن ابن عيينة مثله : ثم روي عن يونس ، عن ابن وهب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار " .
وأخرجه{[26339]} صاحبا الصحيح والنسائي ، من حديث يونس بن زيد ، به{[26340]} .
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله : استقرضت عبدي فلم يعطني ، وسَبّنِي عبدي ، يقول : وادهراه . وأنا الدهر " {[26341]} .
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله ، عليه الصلاة والسلام : " لا تسبوا الدهر ؛ فإن الله هو الدهر " : كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أوخيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله [ عز وجل ]{[26342]} فكأنهم إنما سبوا ، الله عز وجل ؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نُهي{[26343]} عن سب الدهر بهذا الاعتبار ؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ، ويسندون إليه تلك الأفعال .
هذا أحسن ما قيل في تفسيره ، وهو المراد ، والله أعلم . وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى ، أخذا من هذا الحديث . .
وقوله تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } الآية حكاية مقالة بعض قريش ، وهذه صنيفة دهرية من كفار العرب . ومعنى قولهم : ما في الوجود إلا هذه الحياة التي نحن فيها وليست ثم آخرة ولا بعث .
واختلف المفسرون في معنى قولهم : { نموت ونحيا } فقالت فرقة المعنى : نحن موتى قبل أن نوجد ، ثم نحيا في وقت وجودنا . وقالت فرقة : المعنى : { نموت } حين نحن نطف ودم ، ثم { نحيا } بالأرواح فينا ، وهذا قول قريب من الأول ، ويسقط على القولين ذكر الموت المعروف الذي هو خروج الروح من الجسد ، وهو الأهم في الذكر . وقالت فرقة المعنى نحيا ونموت ، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير . وقالت فرقة : الغرض من اللفظ العبارة عن حال النوع ، فكأن النوع بجملته يقول : إنما نحن تموت طائفة وتحيا طائفة دأباً .
وقولهم : { وما يهلكنا إلا الدهر } أي طول الزمان هو المهلك ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها ، فنفى الله تعالى علمهم بهذا وأعلم انها ظنون وتخرص تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى . و { الدهر } والزمان تستعمله العرب بمعنى واحد . وفي قراءة ابن مسعود : «وما يهلكنا إلا دهر يمر » . وقال مجاهد : { الدهر } هنا الزمان ، وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال : «كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار »{[10278]} .
ويفارق هذا الاستعمال قول النبي عليه السلام : «لا تسبوا الدهر ، فإن الله تعالى هو الدهر »{[10279]} وفي حديث آخر : «قال الله تعالى يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار »{[10280]} ومعنى هذا الحديث : فإن الله تعالى يفعل ما تنسبونه إلى الدهر وتسبونه بسبه . وإذا تأملت مثالات هذا في الكلام ظهرت إن شاء الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.