القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم : ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات . كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا : أي لعمري هذا قول مشركي العرب .
وقوله : نَمُوتُ وَنحيْا ، نموت نحن وتحيا أبناؤنا بعدنا ، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم ، لأنهم منهم وبعضهم ، فكأنهم بحياتهم أحياء ، وذلك نظير قول الناس : ما مات من خلف ابنا مثل فلان ، لأنه بحياة ذكره به ، كأنه حيّ غير ميت ، وقد يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات ، كما يقال : قمت وقعدت ، بمعنى : قعدت وقمت . والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان ، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الاخر ، تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا ، فهذا من ذلك ، لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات ، فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة ، إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياءً وأخرى أمواتا .
وقوله : وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا : وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر ، إنكارا منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم .
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله «وَما يُهْلِكُنا إلاّ دَهْرٌ يَمُرّ » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، قال : الزمان .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، قال ذلك مشركو قريش ما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ : إلا العمر .
وذُكر أن هذه الاية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون : الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان ، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم ، وهم يرون أنهم يسبون بذلك الدهر والزمان ، فقال الله عزّ وجلّ لهم : أنا الذي أفنيكم وأهلككم ، لا الدهر والزمان ، ولا علم لكم بذلك . ذكر الرواية بذلك عمن قاله :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كانَ أهْلُ الجاهِليّةِ يَقُولُونَ » : إنّمَا يُهْلِكُنا اللّيْلُ وَالنّهارُ ، وَهُوَ الّذِي يُهْلِكُنا ويُمِيتُنا ويُحْيينا ، فقال الله في كتابه : وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا نَمُوتُ وَنحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، قال : «فَيَسَبّونَ الدّهْرَ » ، فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وَتعَالى : «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وأنا الدّهْرُ ، بيَدِي الأمْرُ ، أُقَلّبُ اللّيْلَ والنّهارَ » .
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعي ، قال : حدثنا أبو روح ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال قال أبو هريرة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قالَ اللّهُ تَعالى : يَسُبّ ابْنُ آدَمَ الدّهْرَ ، وأنا الدّهْرُ ، بِيَدِي اللّيْلُ والنّهارُ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ اللّهُ اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِني ، وَسَبّنِي عَبْدِي يَقُولُ : وَادَهْراهُ ، وأنا الدّهْرُ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ قالَ : لا يَقُولَنّ أحَدُكُمْ : يا خَيْبَةَ الدّهْرِ ، فإنّي أنا الدّهْرُ ، أُقَلّبُ لَيْلَهُ وَنهارَهُ ، وَإذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُما » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن أبي هريرة قال : «لا تَسُبّوا الدّهْرَ ، فإنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ » .
وَما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ ، يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين القائلين : ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، بما يقولون من ذلك من علم : يعني من يقين علم ، لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله ، ولا برهان عندهم بحقيقته ، إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ ، يقول جلّ ثناؤه : ما هم إلا في ظنّ من ذلك ، وشكّ يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.