مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (24)

واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر ، أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدنيا فمنكروا القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت ، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟ قلنا فيه وجوه ( الأول ) المراد بقوله { نموت } حال كونهم نطفا في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وبقوله { نحيا } ما حصل بعد ذلك في الدنيا ، ( الثاني ) نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا ، ( الثالث ) يموت بعض ويحيا بعض . ( الرابع ) وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال : { ما هي إلا حياتنا الدنيا } ثم قال بعده : { نموت ونحيا } يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ، ومنها ما لم يطرأ الموت عليها ، وذلك في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد ، وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار ، فهو قولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة ، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت ، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار ، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة .

ثم قال تعالى : { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل ، الاحتمالات بأسرها قائمة ، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضا يحتمل ، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقا ، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقا ، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل ، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموا به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة ، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبينة قول باطل فاسد ، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى .