الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (24)

{ وَقَالُواْ } يعني المشركين . { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } يموت الآباء ويحيا الأبناء . { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ } وما يفنينا إِلاَّ الزمان وطول العمر . وفي حرف عبد الله وما يهلكنا الدهر يمر .

{ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أخبرنا الحسين بن فنجويه بقراءتي حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي الدينوري ، حدثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي ، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي ، حدثنا سفيان بن عيينة بن ابي عمران ، عن الزهري ، عن سعيد ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان أهل الجاهلية يقولون : إنّما الليل والنهار هو الّذي يهلكنا يميتنا ويحيينا " فقال الله تعالى في كتابه : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ } فيسبون الدّهر .

فقال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدّهر وأنا الدّهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار .

أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فاقرّ به ، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن ، حدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأحمد بن يوسف ، قالوا : حدثنا عبد الرزاق بن همام ، أخبرنا معمر بن راشد ، عن همام بن منبه بن كامل بن سيج ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن محمد صلى الله عليه وسلم قال :

" قال الله تعالى : لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر ، أُرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما " .

أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة ، حدثنا عبد الملك بن أحمد البغدادي ، حدثنا محمود بن خداش ، حدثنا سفيان بن محمد الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( عليه السلام ) : " لا تسبوا الدهر فإنّ الله تعالى هو الدهر " .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير هذا الحديث : إنّ هذا مما لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه وذلك أن من شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب [ . . . . . . ] اجتاحهم الدهر وتخوفتهم الأيام وأتى عليهم الزمان وما أشبه ذلك حتّى ذكروها في أشعارهم ، [ ونسبوا الأحداث إليه ] .

قال عمرو بن قميئة :

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى *** فكيف بمن يرمي وليس برام

فلو أنَّها نَبلٌ إذاً لاتقيتها *** ولكنّني أرمي بغير سهام

على الراحتين مرة وعلى العصا *** أنوء ثلاثاً بعدهنْ من قيامي

وروي إنّ الشعبي دخل على عبد الملك بن مروان وقد ضعف . فسأله عن حاله ، فأنشده هذه الأبيات :

فاستأثر الدهر الغداة بهم *** والدهر يرميني ولا أرمي

يا دهر قد أكثرت فجعتنا *** بسراتنا ووقرت في العظم

وتركتنا لحم على وضم *** لو كنت تستبقي من اللحم

وسلبتنا ما لست تعقبنا *** يا دهر ما أنصفت في الحكم

وأنشدنا أبو القاسم السدوسي ، أنشدنا عبد السميع بن محمد الهاشمي ، أخبرنا أبو الحسن العبسي لإبن لنكك في هذا المعنى :

قل لدهر عن المكارم عطل *** يا قبيح الفعال جهم المحيا

كم كريم حططته من بقاع *** ولئيم ألحقته بالثريا

قال أبو عبيدة : وناظرت بعض الملاحدة . فقال : ألاّ تراه يقول : فإنّ الله هو الدهر . فقلت له : وهل كان أحد يسب الله في أياد الدهر ، بل كانوا يقولون كما قال الأعشى :

استأثر الله بالوفاء وبالعدل *** وولى الملامة الرجلا

قال : فتأويل قوله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله هو الدهر " ، إن الله جل ذكره هو الّذي يأتي بالدهر والشدائد والمصائب فإذا سببت الدهر وقع السب على الله تعالى ؛ لأنّه فاعل هذه الأشياء وقاضيها ومدبرها .

وقال الحسين بن الفضل : مجازه : فإنّ الله هو مدهّر الدهور .

وروي عن علي رضي الله عنه في خطبة له : مُدهّر الدهور ، ومن عنده الميسور ، ومن لدنه المعسور .

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري ، حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن الكارزي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن القاسم الجمحي ، حدثنا عسر بن أحمد ، قال : بلغني أنّ سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيراً ما يذكر الدهر ، فزجرهُ أبوه عبد الله بن عمر ، وقال له : يا بني إياك وذكر الدهر ، وأنشد :

فما الدهر بالجاني لشيء لحينه *** ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا

ولكن متى ما يبعث الله باعثاً *** على معشر يجعل مياسيرهم عُسْرَا

وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي ، أنشدنا الشيخ أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، أنشدنا معاذ بن نجدة بن العريان :

دار الزمان على الأمور فإنّه [ إن لحدا أزراك ] بالآلام

وذو الزمان على الملام فإنما *** يحكي الزمان مجاري الأقلام

يُشكى الزمان ويستزاد وإنّما *** بيد المليك ساند الأحكام

وأنشدنا الأستاذ أبو القاسم ، أنشدني أبي ، أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي :

يا عاتبَ الدهر إذا نابَهُ *** لا تلم الدّهر على عذره

الدهر مأمور له آمرٌ *** وينتهي الدهر إلى أمره

كم كافر أمواله جمة *** تزداد أضعافاً على كفره

ومؤمن ليس له درهم *** يزدادا ايماناً على فقره