فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (24)

ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال :{ وَقَالُوا } أي منكرو البعث { مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة ، وقيل نموت نحن ويحيا فيها أولادنا ، وقيل نكون نطفة ميتة ثم نصير أحياء ، وقيل في الآية تقديم وتأخير أي نحيا ونموت ، وكذا قرأ ابن مسعود ، وعلى كل تقدير فمرادهم بهذه المقالة إنكار البعث وتكذيب الآخرة وقيل : هذا من كلام من يقول بالتناسخ أي بموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به .

{ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } أي مرور الليالي والأيام ، والدهر في الأصل مدة بقاء العالم ، من دهره إذا غلبه . وفي القاموس : دهرهم أمر كمنع نزل بهم مكروه ، فهم مدهور بهم ، ومدهورون ، وقرئ إلا دهر يمر ، قال مجاهد يعني السنين والأيام انتهى .

كانوا يزعمون أن مرورها هو المؤثر في هلاك الأنفس وينكرون ملك الموت وقبض الأرواح بإذن الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، ألا ترى أن أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ؟ وقال قتادة : إلا العمر ؛ والمعنى واحد ؛ وقال قطرب : المعنى وما يهلكنا إلا الموت . وقال عكرمة : وما يهلكنا إلا الله . عن أبي هريرة قال : ( كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يحيينا ويميتنا ، فيسبون الدهر ، فقال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم الحديث ) ، وفي الموطأ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإن الله هو الدهر ) ، وقد استدل بهذا الحديث من قال : إن الدهر من أسماء الله تعالى ، ومرادهم بهذا الحصر إنكار أن يكون الموت بواسطة ملك الموت وإضافة الحوادث إلى الدهر والزمان ، وأن المؤثر في هلاك الأنفس هو مرور الأيام والليالي{[1484]}

{ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ } أي بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال { مِنْ عِلْمٍ } ثم بين كون ذلك صادرا منهم لا عن علم فقال : { إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } أي ما هم إلا قوم غاية ما عندهم الظن ، فما يتكلمون إلا به ، ولا يستندون إلا إليه .


[1484]:روى مسلم 4/1763 لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله.