السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ} (24)

{ وقالوا } أي : في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه تعالى قادر على كل شيء { ما هي } أي : الحياة { إلا حياتنا } أي : أيها الناس { الدنيا } أي : هذه التي نحن فيها { نموت ونحيا } ، فإن قيل : الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكروا القيامة كان يجب أن يقولوا : نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟ أجيب : من وجوه أولها : أن المراد بقولهم نموت أي : حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقولهم ونحيا ما حصل بعد ذلك في الدنيا ، ثانيها : نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا ، ثالثها : قال الزجاج : الواو للاجتماع والمعنى : يموت بعض ويحيا بعض ، رابعها : قال الرازي : إنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال { إن هي إلا حياتنا الدنيا } ثم قال بعده { نموت ونحيا } يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ، ومنها ما لا يطرأ عليه الموت بعد ذلك وهو في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد ، وقال البيضاوي : يحتمل أنهم أرادوا به التناسخ أي : وهو أن روح الشخص إذا خرجت تنتقل إلى شخص آخر فيحيا بعد أن لم يكن ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأصنام { وما يهلكنا } أي : بعد الحياة { إلا الدهر } أي : مر الزمان الطويل بغلبته علينا وطول العمر واختلاف الليل والنهار ، من دهره إذا غلبه { وما } أي : قالوه والحال أنه ما { لهم بذلك } أي : المقول البعيد من الصواب ، وهو أنه لا حياة بعد هذه وأن الإهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه وأغرق في النفي فقال تعالى { من علم } أي : كثير ولا قليل { إن } أي : ما { هم إلا يظنون } أي : بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف وأنه لم يرجع أحد من الموتى ، هذا ظنهم الفاسد .

روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قال الله تعالى : لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما » . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يسب أحدكم الدهر فإن الدهر هو الله تعالى ولا يقولن للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم » . ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبُّه عند النوازل ؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله تعالى عنهم فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها ، فكان يرجع سبهم إلى الله تعالى إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهوا عن سبه .