ثم أعلمهم أن من أكل مال يتيم ظلما فإنما يأكل في بطنه نارًا ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي : إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب ، فإنما يأكلون نارًا تَأجَّج{[6669]} في بطونهم يوم القيامة . وثبت في الصحيحين من حديث سليمان ابن بلال ، عن ثَوْر بن زيد{[6670]} عن سالم أبي الغَيْث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات " قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشِّرْكُ بالله ، والسِّحْر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولِّي يوم الزَّحْفِ ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيدة{[6671]} أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّى ، حدثنا أبو هاروي{[6672]} العَبْدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ، ما رأيت
ليلة أسري بك ؟ قال : " انطَلَق بي إلى خَلْقٍ من خَلْقِ الله كثير ، رِجَال ، كل رجل له مِشْفَران كمشفري البعير ، وهو موَكَّل بهم رجال يفكون{[6673]} لحاء{[6674]} أحدهم ، ثم يُجَاءُ بِصَخْرَةٍ من نار فَتُقْذَف في فِي أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم{[6675]} خُوار وصُرَاخ . قلت{[6676]} يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسَيَصْلَوْن سَعِيرًا " {[6677]} .
وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج{[6678]} من فِيهِ ومن مسامعه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .
وقال أبو بكر ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بُكَير ، حدثنا زياد بن المنذر ، عن نافع بن الحارث عن أبي برزة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث يوم القيامة القوم{[6679]} من قبورهم تَأَجَّج أفواههم نارا " قيل : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : " ألم تر أن الله قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ]{[6680]} } الآية .
رواه{[6681]} ابن أبي حاتم ، عن أبي زُرْعة ، عن عُقْبة بن مكرم وأخرجه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه ، عن أحمد بن علي بن المثنى ، عن عقبة بن مكرم{[6682]} .
وقال ابن مَردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أحمد بن عصام{[6683]} حدثنا أبو عامر العبدي ، حدثنا عبد الله{[6684]} بن جعفر الزهري ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبرِيّ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُحَرِّجُ مال الضَّعِيفيْن : المرأة واليتيم " {[6685]} أي{[6686]} أوصيكم باجتناب مالهما .
وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ]{[6687]} } انطلق من كان عنده يتيم ، فَعَزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فَيُحْبَس له حتى يأكله أو يفسد{[6688]} فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ]{[6689]} } [ البقرة : 220 ] .
{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } ظالمين ، أو على وجه الظلم . { إنما يأكلون في بطونهم } ملء بطونهم . { نارا } ما يجر إلى النار ، ويؤول إليها . وعن أبي بردة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الله قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا " . فقيل : من هم ؟ فقال : " ألم تر أن الله يقول : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } { وسيصلون سعيرا } سيدخلون نارا وأي نار " . وقرأ ابن عامر وابن عياش عن عاصم بضم الياء مخففا . وقرئ به مشددا يقال صلى النار قاسى حرها ، وصليته شويته وأصليته وصليته ألقيته فيها ، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها .
قال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار ، ويأكلون أموالهم ، وقال أكثر الناس : نزلت في الأوصياء الذي يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم ، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصياً ، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلاً لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء ، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخرق ، من التهافت بسبب البطن ، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار ، و { ظلماً } معناه : ما جاوز المعروف مع فقر الوصي ، وقال بعض الناس : المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل : { يأكلون } النار ، وقالت طائفة : بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار ، وفي ذلك أحاديث ، منها حديث أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به ، قال ، رأيت أقواماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار ، تخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً{[3865]} ، وقرأ جمهور الناس «وسيَصلون » على إسناد الفعل إليهم ، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم ، وقرأ أبو حيوة ، و «سيُصلُون » بضم الياء واللام ، وهي ضعيفة ، والأول أصوب ، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله : { لا يصلاها إلا الأشقى }{[3866]} وفي قوله : { صال الجحيم }{[3867]} والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد{[3868]} :
لم أكن من جناتها ، علم الله . . . وإني بحرِّها اليوم صال
والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره ، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون ، «والسعير » : الجمر المشتعل ، وهذه آية من آيات الوعيد ، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة ، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ، وتلخيص الكلام في المسألة : أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، هذا عرفهما إذا أطلقا ، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيداً به ، كما قال تعالى : { النار وعدها الله ، الذين كفروا }{[3869]} فقالت المعتزلة : آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين ، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر ، وقال بعضهم : وبالصغائر ، وقالت المرجئة : آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق ، كان من كان من عاص أو طائع ، وقلنا أهل السنة والجماعة : آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة ، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة ، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لما يشاء }{[3870]} فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين ، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد ، إذ الشرك أيضاً يغفر للتائب ، وهذا قاطع بحكم قوله { لمن يشاء } بأن ثم مغفوراً له وغير مغفور ، واستقام المذهب السني .
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى ، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات ، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم ، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار ، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض ، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة .
وقوله : { ظلماً } حال من { يأكلون } مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله : { ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } [ النساء : 6 ] ، فيكون كقوله : { ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ النساء : 29 ] .
ثم يجوز أن يكون ( نارا ) من قوله : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } مراداً بها نار جهنّم ، كما هو الغالب في القرآن ، وعليه ففِعْلُ { يأكلون } ناصب ( ناراً ) المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار ، فأطلق النار مجازاً مرسلاً بعلاقة الأَوْل أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم ، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم .
وعلى هذا فعطف جملة : { وسيصلون سعيراً } عَطْف مرادف لمعنى جملة { يأكلون في بطونهم ناراً } .
ويجوز أن يكون اسم النار مستعاراً للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديداً بعذاب دنيوي أو مستعاراً للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه ، والمعنى إنّما يأخذون أموالاً هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه ، فيكون هذا تهديداً بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى : { يمحق اللَّه الربا } [ البقرة : 276 ] ويكون عطف جملة { وسيصلون سعيراً } جارياً على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين ، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا ، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة .
وذِكْرُ { في بطونهم } على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة { يأكلون } لمعنى يأخذون ويستحوذون .
والسين في { سيصلون } حرف تنفيس أي استقبال ، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال ، سوءا كان استقبالاً قريباً أو بعيداً ، وهي مرادفة سوف ، وقيل : إنّ سوف أوسع زمانا . وتفيدان في مقام الوعد تحقيقَ الوعد وكذلك التوعّد .
ويَصْلَوْن مضارع صَلِي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة ، كما هنا ، يقال : صلى بالنار ، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صَلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض ، قال حُمَيْد بن ثور :
لا تَصْطَلي النارَ إلاّ يَجْمَرا أَرجَا *** قد كسَّرَت مِن يلجوج له وَقَصَا
وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد .
وقرأ الجمهور : وسيَصلونَ بفتح التحتية مضارع صَلي ، وقرأه ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب .
{ والسعير } النار المسعَّرة أي الملتهبة ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، بني بصيغة المجرّد ، وهو من المضاعف ، كما بنى السميع من أَسْمَع ، والحكيم من أَحْكم .