تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم ، وتكريمه إياهم ، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها{[17673]} كما قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] أي : يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه ، ويأكل بيديه - وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه - وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا ، يفقه بذلك كله وينتفع به ، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية .

{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ }{[17674]} أي : على الدواب من الأنعام والخيل والبغال ، وفي " البحر " أيضًا على السفن الكبار والصغار .

{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : من زروع وثمار ، ولحوم وألبان ، من سائر أنواع الطعوم{[17675]} والألوان ، المشتهاة اللذيذة ، والمناظر الحسنة ، والملابس الرفيعة{[17676]} من سائر الأنواع ، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها ، مما يصنعونه لأنفسهم ، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي .

{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } أي : من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات .

وقد استُدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة ، قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة : يا ربنا ، إنك أعطيت بني آدم الدنيا ، يأكلون منها ويتنعمون ، ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة . فقال الله : " وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان " {[17677]} .

وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه ، وقد روي من وجه آخر متصلا .

وقال{[17678]} الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن صَدَقَة البغدادي ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المِصِّيصِيّ ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن مطرف ، عن صفوان بن سُليم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا ، يأكلون فيها{[17679]} ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة . قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن ، فكان " {[17680]} .

وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي ، حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة بن عَلاق ، سمعت عروة بن رُوَيْم اللخمي ، حدثني أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة قالوا : ربنا ، خلقتنا وخلقت بني آدم ، فجعلتهم يأكلون الطعام ، ويشربون الشراب ، ويلبسون الثياب ، ويتزوجون النساء ، ويركبون الدواب ، ينامون{[17681]} ويستريحون ، ولم تجعل لنا من ذلك شيئًا ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة . فقال الله عز وجل : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن ، فكان " {[17682]} .

وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا عمر{[17683]} بن سهل ، حدثنا عبيد الله بن تمام ، عن خالد الحذاء ، عن بشر بن شِغَاف{[17684]} عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم " . قيل : يا رسول الله ولا الملائكة ؟ قال : " ولا الملائكة ، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر " {[17685]} . وهذا حديث غريب جدًا .


[17673]:في أ: "وأجملها".
[17674]:في ت، ف: "البر والبحر".
[17675]:في ت: "الأطعمة".
[17676]:في ت، ف، أ: "المرتفعة".
[17677]:تفسير عبد الرزاق (1/325).
[17678]:في ف: "فقال".
[17679]:في ت: "منها".
[17680]:وفي إسناده إبراهيم بن عبد الله المصيصي وهو كذاب، ورواه في المعجم الأوسط برقم (87) "مجمع البحرين" من طريق طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم به، وقال: "لم يروه عن صفوان إلا طلحة، وأبو غسان محمد بن مطرف" وفي إسناده طلحة بن زيد وهو كذاب.
[17681]:في ت: "وينامون".
[17682]:وذكره الهندي في كنز العمال (12/191) وعزاه لابن عساكر من حديث أنس، وقد جاء من وجه آخر؛ فرواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أحمد بن يعلى، عن هشام بن عمار، عن عثمان بن علاق قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره، ورواه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق جنيد بن حكيم، عن هشام بن عمار، عن عبد ربه بن صالح قال: سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره. أ. هـ. مستفادا ذلك الزيلعي في كتابه تخريج الكشاف.
[17683]:في ت، ف: "معمر".
[17684]:في ف: "شعاب".
[17685]:قال الهيثمي في المجمع (1/82): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبيد الله بن تمام وهو ضعيف".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

{ ولقد كرّمنا بني آدم } بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتمييز بالعقل والإفهام بالنطق والإشارة والخط والتهدي ، إلى أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض والتمكن من الصناعات وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع إلى غير ذلك مما يقف الحصر دون إحصائه ومن ذلك ما ذكره ابن عباس وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده { وحملناهم في البر والبحر } على الدواب والسفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم تخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء { ورزقناهم من الطيبات } المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم . { وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } بالغلبة والاستيلاء أو بالشرف والكرامة ، والمستثنى جنس الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو الخواص منهم ، ولا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده والمسألة موضع نظر ، وقد أول الكثير بالكل وفيه تعسف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

{ كرمنا } تضعيف كرم ، فالمعنى : جعلنا لهم كرماً ، أي شرفاً وفضلاً ، وهذا هو كرم نفي النقصان ، لا كرم المال ؛ وإنما هو كما تقول : ثوب كريم ، أي جمة محاسنه .

قال القاضي أبو محمد : رضي الله عنه : وهذه الآية ، عدد الله تعالى فيها على بني آدم ما خصهم به من بين سائر الحيوان ، والحيوان والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، وحملهم { في البر والبحر } ، مما لا يصلح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يحمل بإرادته وقصده وتدبيره { في البر والبحر } جميعاً ، والرزق { من الطيبات } ، ولا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم ، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ، ويأكلون المركبات من الأطعمة ، وغاية كل حيوان أن يأكل لحماً نياً ، أو طعاماً غير مركب ، و «الرزق » ، كل ما صح الانتفاع به ، وحكى الطبري عن جماعة أنهم قالوا : «التفضيل » هو أن يأكل بيديه وسائر الحيوان بالفم ، وقال غيره : وأن ينظر من إشراف أكثر من كل حيوان ، ويمشي قائماً ، ونحو هذا من التفضيل ، وهذا كله غير محذق{[7636]} وذلك للحيوان من هذا النوع ما كان يفضل به ابن آدم ، كجري الفرس ، وسمعه ، وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد وكرم الديك ، وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله ، وبه يعرف الله عز وجل ، ويفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه ، وقالت فرقة : هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس ، من حيث هم المستثنون ، وقد قال تعالى { ولا الملائكة المقربون }{[7637]} وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن به الآية ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل التساوي ، وإنما صح تفضيل الملائكة من مواضعٍ أخر من الشرع .


[7636]:يريد: غير قاطع في معناه، أو لا يدل على مهارة صاحبه وحذقه.
[7637]:من الآية (172) من سورة (النساء).