تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ} (32)

وقوله : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، من ذلك عن جابر قال : جاء عمر ، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها " فقال : فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب .

ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال . والخيل تراد للقتال . وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة ، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب ؛ لأنه قال بعدها : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ }

قال الحسن البصري . قال : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك . ثم أمر بها فعقرت . وكذا قال قتادة .

وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : جعل يمسح أعراف الخيل ، وعراقيبها حبالها . وهذا القول اختاره ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها . وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت - قالا أتينا على رجل من أهل البادية ، فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال : " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله - عز وجل - إلا أعطاك الله خيرا منه " .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ} (32)

{ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } أصل { أحببت } أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت مناب عدي تعديته ، وقيل هو بمعنى تقاعدت من قوله :

مثل بعير السوء إذا أحبا *** . . .

أي برك ، و { حب الخير } مفعول له والخير المال الكثير ، والمراد به الخيل التي شغلته ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها . قال صلى الله عليه وسلم " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " . وقرأ ابن كثير ونافع أبو عمرو بفتح الياء . { حتى توارث بالحجاب } أي غربت الشمس ، شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ} (32)

وقال بعض الناس : { الخير } هنا أراد به الخيل . والعرب تسمي الخيل الخير ، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل : أنت زيد الخير . و { حبَّ } منصوب على المفعول به عند فرقة ، كأن { أحببت } بمعنى آثرت . وقالت فرقة : المفعول ب { أحببت } محذوف ، و { حبَّ } نصب على المصدر ، أي أحببت هذه الخيل حب الخير ، وتكون { الخير } على هذا التأويل غير الخيل ، وفي مصحف ابن مسعود : » حب الحيل « ، باللام . وقالت فرقة : { أحببت } معناه : سقطت إلى الأرض لذنبي ، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيا وسقط هزالاً . و { حب } على هذا مفعول من أجله . والضمير في { توارت } للشمس ، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح ، لأن المعنى يقتضيها ، وأيضاً فذكر العشي يقتضي لها ذكراً ويتضمنها ، لأن العشي إنما هو مقدر متوهم بها . وقال بعض المفسرين في هذه الآية : { حتى توارت بالحجاب } يريد الخيل ، أي دخلت اصطبلاتها . وقال ابن عيسى والزهري : إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف ، بل بيده تكريماً لها ومحبة ، ورجحه الطبري . وقال بعضهم : بل غسلاً بالماء ، وقد يقال للغسل مسح ، لأن الغسل بالأيدي يقترن به ، وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية .

وروي عن بعض الناس ، وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة ولا تضمن أمر الخيل أوبة ولا رجوعاً ، فالعامل في : { إذ عرض } فعل مضمر تقديره : اذكر إذ عرض ، وقالوا عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم ، أي في الصلاة ، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات ، فقال هو لما فرغ من صلاته : { أني أحببت حب الخير } أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول : فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها .