تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه{[22491]} غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 23 ، 24 ] .

ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما ، في مقابلة إحسانهما المتقدم ، قال : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } أي : وإن حَرَصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فإياك وإياهما ، لا تطعهما في ذلك ، فإن مرجعكم إلي يوم القيامة ، فأجزيك بإحسانك إليهما ، وصبرك على دينك ، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك ، وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا ، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع مَنْ أحب ، أي : حبا دينيا ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } .

وقال{[22492]} الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك بن حرب قال : سمعت مُصعَب بن سعد يحدث عن أبيه سعد ، قال : نزلت فيَّ أربع آيات . فذكر قصة ، وقالت أم سعد : أليس قد أمرك الله بالبر ؟ والله لا أطعَمُ طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شَجَروا فاها ، فأنزل الله{[22493]} { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ } الآية .

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي أيضا{[22494]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح .


[22491]:- في أ : "إليه".
[22492]:- في ت : "وروى".
[22493]:- في ت ، ف : "فنزلت".
[22494]:- سنن الترمذي برقم (3079) والمسند (1/181) وصحيح مسلم برقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

{ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } بإيتائهما فعلا ذا حسن ، أو كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه ووصى يجري مجرى أمر معنى وتصرفا . وقيل هو بمعنى قال أي وقلنا له أحسن بوالديك { حسنا } ، وقيل { حسنا } منتصب بفعل مضمر على تقدير قول مفسر للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما { حسنا } وهو أفق لما بعده وعليه يحسن الوقف على { بوالديه } ، وقرئ { حسنا } و " إحسانا " . { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم } بإلهيته عبر عن نفيها بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بطلانه . { فلا تطعهما } في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل . { إلي مرجعكم } مرجع من آمن منكم ومن أشرك ومن بر بوالديه ومن عق . { فأنبئكم بما كنتم تعملون } بالجزاء عليه ، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة ، فإنها لما سمعت بإسلامه حلفت أنها لا تنتقل من الضح ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد ولبثت ثلاثة أيام كذلك وكذا التي في " لقمان " " والأحقاف " .