تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين{[11032]} عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب{[11033]} إله المؤمنين ، وهو الله لا إله إلا هو .

كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد ، لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم ، { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم ، فأنزل الله : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعهم فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية ، وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي مُعِيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البَخْتَري{[11034]} وبعثوا رجلا منهم يقال له : " المطلب " ، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه ، فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندَعْه وإلهه . فدعاه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تريدون ؟ " . قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، ولندَعْك وإلهك . قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أعطيتكم هذا ، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج ؟ " قال أبو جهل : وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها [ قال ]{[11035]} فما هي ؟ قال : " قولوا لا إله إلا الله " . فأبوا واشمأزوا . قال أبو طالب : يا ابن أخي ، قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها . قال : " يا عم ، ما أنا بالذي أقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها " . إرَادَةَ أن يُؤيسَهم ، فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا ، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله : { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }{[11036]}

ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سب والديه " . قالوا يا رسول الله ، وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " . أو كما قال ، عليه السلام{[11037]} {[11038]}

وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي : وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار ، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة ، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره . { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } أي : معادهم ومصيرهم ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : يجازيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر .


[11032]:في أ: "وللمؤمنين".
[11033]:في أ: "سب".
[11034]:في م: "عبد يغوث".
[11035]:زيادة من أ.
[11036]:تفسير الطبري (12/34).
[11037]:في أ: "صلى الله عليه وسلم".
[11038]:رواه مسلم في صحيحه برقم (90) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح . { فيسبوا الله عدوا } تجاوزا عن الحق إلى الباطل . { بغير علم } على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به . وقرأ يعقوب { عدوا } يقال عدا فلان عدوا وعدوا وعداء وعدوانا . روي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك ، فنزلت . وقيل كان المسملون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبا لسب الله سبحانه وتعالى ، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر . { كذلك زينا لكل أمة عملهم } من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم ، والمشبه به تزيين سب الله لهم . { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } بالمحاسبة والمجازاة عليهم .