فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

قوله : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار . والمعنى : لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله ، فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق ، وجهلاً منهم .

وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق ، والناهي عن الباطل ، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم ، ومخالفة حق ، ووقوع في باطل أشد كان الترك أولى به ، بل كان واجباً عليه ، وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله ، المتصدين لبيانها للناس ، إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه ، وتركوا غيره من المعروف . وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات ؛ عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين ، وجراءة على الله سبحانه ، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف ، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجرؤ على أهلها ديدنه وهجيراه ، كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل ، وإذا أرشدوا إلى السنة ، قابلوها بما لديهم من [ البدعة ] ، فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع ، وهم شرّ من الزنادقة ، لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ، ويتظهّرون بذلك غير خائفين ولا وجلين ، والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام ، وتحاماهم أهله ، وقد ينفق كيدهم ، ويتمّ باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين ، مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل ، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة ، وهي أصل أصيل في سدّ الذرائع ، وقطع التطرّق إلى الشبه .

وقرأ أهل مكة «عُدُوّا » بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهي قراءة الحسن ، وأبي رجاء وقتادة . وقرأ من عداهم بفتح العين [ وإسكان الدال وتخفيف الواو ] ، ومعنى القراءتين واحد : أي ظلماً وعدواناً ، وهو منتصب على الحال ، أو على المصدر ، أو على أنه مفعول له { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم من الخير والشرّ { يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ، ولا قبلوا من المرسلين ما أرسلهم الله به إليهم ، وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم .

/خ108