التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } .

قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم .

وفي رواية عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله{[1241]} .

والمعنى أن المسلمين قد نهوا عن سبب آلهة المشركين ، كيلا تستفزهم غيرتهم الفاسدة على أصنامهم فيسبوا الله { عدوا } أي جهلا أي جهلا واعتداء وتجاوزا إلى الباطل .

ويستدل من ذلك المصلحة إذا كانت تفضي إلى مفسدة أعظم منها . وفي مثل ذلك جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سب والديه " قالوا يا رسول الله ! وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " .

وفي هذه الآية دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع في كل حال . والذرائع جمع ذريعة ، وهي الوسيلة . ومعنى سد الذرائع هو حسم مادة وسائل الفساد دفعا له . فإذا كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة تفضي إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل . وذلك مذهب المالكة والحنبلية . وجملته أن سد الذرائع ما ظاهره مباح ويتوصل به إلى محرم . وهذا أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام ، على الخلاف في ذلك{[1242]} .

واستدلوا على جواز الاحتجاج بسد الذرائع ببعض النصوص منها : ما رواه الترمذي عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دع ما يريبك إلى ما لا يربيك " .

ومنها ما رواه البخاري عن النعمان بن بشير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحلال بين والحرام بين . وبينهما أمور مشتبهة . فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك . ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى الله . ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه " .

ومنها : الإجماع من الصحابة . وذلك أن عمر رضي الله عنه قال : أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسر لنا الربا فاتركوا الربا والريبة ، بمحضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه أحد .

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد والقبور ولعن من فعل ذلك ونهي عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد . وكذلك نهى عن الصلاة إليها أو عندها ، وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها . ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها .

ومنها : أن الله تعالى نهى عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاعل بالتجارة عن حضور الصلاة .

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن ، أو السفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين ، سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطبع .

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المقرض من أخذ الهدية أو قبولها حتى يحسبها من دينه ، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا . . . إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها على تحريم الحلال المفضي إلى الحرام{[1243]} .

قوله : { عدوا بغير علم } عدوا مصدره وفعله عدا يعدو عدوانا . ومنه قول القائل : عدا فلان على فلان إذا ظلمه واعتدى عليه . والمقصود أن المشركين يسبون الله ظلما وعدوانا وجهالة بالله وبقدره العظيم وبما يستوجبه من يقين الإيمان وكامل الإخبات والطاعة .

قوله : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } الكاف في اسم الإشارة صفة للمصدر .

والتقدير : زينا تزيينا مثل ذلك . أي زينا لأهل الطاعة الطاعة ولأهل الكفر الكفر . وهو قول ابن عباس . ولعل التأويل الراجح للآية هو أن مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الأمم عملهم من الخير والشر . وذلك بإحداث القدرة والاستعداد فيهم لفعل ما يمكنهم فعله .

قوله : { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } بعد هذا التزيين للناس فإن مردهم ومصيرهم إلى الله ، وذلك يوم البعث حيث الحساب والجزاء . وإذ ذاك يوفقهم الله على ما أسلفوه من أعمال في الدنيا وعلى حقيقة مصيرهم في هذا اليوم الذي يجدون فيه ما يستحقونه من جزاء{[1244]} .


[1241]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 149 وتفسير الطبري ج 7 ص 207.
[1242]:- شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 448 وإرشاد الفحول ص 246 والمنخول للغزالي ص 567- 568 والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل للشيخ عبد القادر بن بدران ص 296.
[1243]:- أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج 3 ص 159.
[1244]:- تفسير الطبري ج 7 ص 207- 208.