إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

{ وَلاَ تَسُبُّوا الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي لا تشتُموهم من حيث عبادتُهم لآلهتهم كأن تقولوا : تباً لكم ولما تعبُدونه مثلاً { فَيَسُبُّوا الله عَدْواً } تجاوزاً عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثلَ قولِكم لهم { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يُذكَرَ به ، وقرئ عُدُوّاً يقال : عدا يعدو عَدْواً وعُدُوّاً وعِداء وعُدْواناً . روي أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء ، الآية 98 ] : لتنتهِيَنَّ عن سب آلهتِنا أو لنهجُوَنّ إلهك . وقيل : كان المسلمون يسبّونهم فنُهوا عن ذلك لئلا يستتبِعَ سبُّهم سبَّه سبحانه وتعالى ، وفيه أن الطاعةَ إذا أدتْ إلى معصية راجحةٍ وجب تركُها فإن ما يؤدي إلى الشر شرٌّ . { كذلك } أي مثلَ ذلك التزيينِ القويِّ { زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } من الخير والشر بإحداث ما يُمكّنهم منه ويحمِلُهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً ، ويجوز أن يُراد بكل أمة أممُ الكفرةِ إذ الكلامُ فيهم وبعملهم شرُّهم وفسادُهم ، والمشبَّه به تزيينُ سبِّ الله تعالى لهم { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ } مالك أمرِهم { مَرْجِعُهُمْ } أي رجوعُهم وهو البعثُ بعد الموت { فَيُنَبّئُهُمْ } من غير تأخير { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزيَّنةِ لهم ، وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب ، كقول الرجل لمن يتوعدُه : سأُخبرُك بما فعلت ، وفيه نكتةٌ سِرّية مبنيةٌ على حِكمة أبيّةٍ ، وهو أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مستعارةٍ مخالفةٍ لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة ، فإن المعاصيَ سمومٌ قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورةٍ ما تستحسنها نفوسُ العصاة ، كما نطقت به هذه الآيةُ الكريمة ، وكذا الطاعاتُ فإنها مع كونها أحسنَ الأحاسنِ قد ظهرت عندهم بصورة مكروهةٍ ، ولذلك قال عليه السلام : «حُفَّت الجنَّةُ بالمكارِهِ وحَفَّتِ النارُ بالشهواتِ » فأعمال الكفرةِ قد برزت لهم في النشأة بصورة مزيَّنةٍ يستحسنها الغُواةُ ويستحبّها الطغاةُ ، وستظهر في النشأة الآخرةِ بصورتها الحقيقيةِ المنكرةِ الهائلةِ فعند ذلك يعرِفون أن أعمالهم ماذا فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلاًّ منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي .