فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار ، والمعنى لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبب عن ذلك سبهم لله عدوانا وتجاوزا عن الحق وجهلا منهم .

وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم ، ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد ، كان الترك أولى به بل كان واجبا عليه .

وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف ، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عنادا للحق وبغضا لاتباع المحقين ، وجرأة على الله سبحانه ، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف ، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجني على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل ، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة .

فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع وهم أشر من الزنادقة لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع ، ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله ، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل .

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه ، وقرئ عدوا بالضم وعدوا بالفتح ومعناهما واحد أي ظلما وعدوانا ، وعن ابن عباس قال : قالوا يا محمد صلى الله عليه وسلم لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم .

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ملعون من سب والديه ، قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) {[713]} .

{ كذلك } أي مثل ذلك التزيين { زينا لكل أمة } من أمر الكفار { عملهم } من الخير والشر والطاعة والمعصية بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ، وفي هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة حيث قالوا : لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه .

{ ثم إلى ربهم مرجعهم } أي مصيرهم { فينبئهم بما كانوا يعملون } في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من الأنبياء ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم .


[713]:البخاري كتاب الكسوف الباب 6.