الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

وقوله تعالى : { مِن دُونِ اللَّهِ } : يجوز أن يتعلَّق ب " يَدْعُون " وأن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال : إمَّا من الموصول ، وإمَّا مِنْ عائده المحذوف أي : يَدْعُونهم حالَ كونهم مستقرِّين من دون الله .

قوله : { فَيَسُبُّواْ } الظاهر أنه منصوب على جواب النهي بإضمار أن بعد الفاء أي : لا تَسُبُّوا آلهتَهم ؛ فقد يترتب عليه ما يكرهون مِنْ سَبِّ الله ، ويجوز أن يكون مجزوماً نسقاً على فعل النهي قبله كقولهم " لا تَمْدُدْها فتشقَّها " وجاز وقوع " الذين " وإن كان مختصَّاً بالعقلاء على الأصنامِ التي لا تَعْقِلُ معاملةً لها معاملةَ العقلاء كما أوقع عليها " مَنْ " في قوله :

{ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ويجوز أن يكون ذلك للتغليب لأن المعبود من دون الله عقلاء كالمسيح وعُزَيْر والملائكة وغيرهم ، فغلَّب العاقل ، ويجوز أن يراد بالذين يَدْعون المشركون أي : لا تَسُبُّوا الكَفَرة الذين يَدْعون غير الله من دونه . وهو وجه واضح .

قوله { عَدْواً } الجمهور على فتح العين وسكون الدال وتخفيف الواو ، ونصبه من ثلاثة أوجه أحدها : أنه منصوب على المصدر لأنه نوعُ من العامل فيه ، لأن السَّبَّ من جنس العَدْوِ . والثاني : أنه مفعول من أجله أي لأجل العدو ، وظاهر كلام الزجاج أنه خلط القولين فجعلهما قولاً واحداً ، فإنه قال : " وعَدْواً منصوبٌ على المصدر لأن المعنى : فَتَعْدُوا/ عَدْواً " قال : " ويكون بإرادة اللام والمعنى : فيسُبُّوا الله للظلم . والثالث : أنه منصوب على أنه واقع موقع الحال المؤكدة لأن السَّبَّ لا يكون إلا عَدْواً . وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وقتادة وسلام وعبد الله بن زيد " عُدُوَّاً " بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهو مصدرُ أيضاً ل " عدا " وانتصابُه على ما تقدَّم من ثلاثة الأوجه . وقرأ ابن كثير في رواية - وهي قراءة أهل مكة فيما نقله النحاس - " عَدُوَّا " بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو بمعنى أعداء ، ونصبه على الحال المؤكدة و " عدوّ " يجوز أن يقع خبراً عن الجمع ، قال تعالى : { هُمُ الْعَدُوُّ } [ المنافقون : 4 ] وقال تعالى

{ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ النساء : 101 ] . ويقال : عَدا يَعْدُوا عَدْواً وعُدُوَّاً وعُدْواناً وعَداءً . و " بغير عِلْم " حالٌ أي : يَسُبُّونه غير عالمين أي : مصاحبين للجهل ؛ لأنه لو قَدَّره حَقَّ قَدْره لما أَقْدَموا عليه . وقوله " كذلك " نعتٌ لمصدر محذوف أي : زَيَّنَّا لهؤلاء أعمالَهم تزييناً مثلَ تزيينِنا لكلِّ أمةٍ عَمَلَهم ، وقيل : تقديره : مثلَ تزيينِ عبادةِ الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لكلِّ أمة عَمَلَهم وهو قريب من الأول .