تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

الآية 108 وقوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } نهانا عن سب من يستحق السب مخافة سب من لا يستحق ، وقد أمرنا بقتالهم ، وإذا قاتلناهم ، قاتلونا . وقيل : سب المؤمن بغير حق من المناكير . وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة والتلاوة عليهم ، وإن كانوا يستقبلونه بالتكذيب .

وقيل{[7581]} : السب لأولئك [ مباح ]{[7582]} غير مفروض ، [ والقتال معهم فرض ]{[7583]} وكذلك التبليغ فرض ، يبلغ{[7584]} إليهم ، وإن كانوا ينكرون ما يبلغون{[7585]} ، وكذلك القتال نقاتلهم ، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسنا .

وأصله أن ما خرج الأمر به مخرج{[7586]} الإباحة فإنه{[7587]} ينهى عما يتولد منه ، ويحدث ، وما كان الأمر به أمر فرض ولزوم ، فلا{[7588]} ينهى عن المتولد منه والحادث . ويجوز/158-أ/ أن يستدل بهذا على تأييد مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في قوله : من{[7589]} قطع يد آخر بقصاص ، فمات في ذلك ، أخذ بالدية . وإذا قطع اليد بحد ، لزمه ، فمات ، لم يؤخذ به ؛ لأنه أبيح له قطع يده ، والقصاص لم يفرض عليه [ الموت ]{[7590]} وفي الحد يلزم إقامة الحد لله ، فإذا كان قيامه بفعل ، أبيح له الفعل ، ينهى عما يتولد منه ، ويؤخذ به ، وإذا كان قيامه بفعل ، فرض عليه ، لم يؤخذ بما تولد منه .

وعلى هذا يخرج قوله في الأمر بالختان ، إذا تولد من ذلك الموت ، لأنه أمر بإقامة السنة ، وكذلك الأمر بالحجامة ، لأنه يفرض عليه الحجامة في حال إذا خاف عليه الهلاك إذا لم يحجم{[7591]} .

وأما الأمر بالدق وغيره مما يشاكله فأمر{[7592]} إباحة لا أمر إلزام ؛ لذلك ضمن ما تولد منه .

فعلى ذلك الساب{[7593]} الذي يسب آلهتهم ؛ إذا حملهم ذلك على سب الله عز وجل وسب رسوله لا يسبون ، وإن كانوا مستحقين لذلك ؛ لأنه قد ينهى الرجل أن يعود نفسه السب . فعلى ذلك يجوز أن ينهوا عن سب آلهتهم مخافة الاعتياد ؛ لذلك نهو عن سب آلهتهم .

ثم ذكر في القصة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسبون آلهتهم ، فيسبون { الله عدوا بغير علم } وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم بسوء ، فقالوا : لتنتهين عن ذلك أو لنهجون ربك . عن ابن عباس رضي الله عنه : وذلك حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } الآية [ الأنبياء : 98 ] فقالوا عند ذلك ما قالوا ، فنزل [ قوله تعالى ]{[7594]} : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية . ولكن لا ندري كيف كانت القصة ، ولكن فيه ما ذكرنا .

وقوله تعالى : { عدوا بغير علم } قال الكيساني وأبو عوسجة { عدوا } من الاعتداء ، وهو مجاوزة الحد . وقال أبو عمرو عدوا بالرفع{[7595]} ، وقال : إنما العدو من عدو الرجلين ، وكذلك قال في يونس : { بغيا وعدوا } [ الآية : 90 ] . وقيل : فلما نزل قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا ربكم } فأمسكوا عن سب آلهتهم .

وقوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } قال أبو بكر الكيساني : إنه صلة قوله { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } إنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان ، [ رجاء أن تقربهم ]{[7596]} عبادتهم إياها إلى الله لأنهم كانوا يعبدونها ، ويتخذونها آلهة دون الله ، فإذا سبوا معبودهم فكأنهم سبوا { الله عدوا بغير علم } إذ العبادة في الحقيقة لله ، فيرجع سبهم إياها إلى الله . لذلك كان معنى السب . فقال : فعلى ذلك رجع قوله : { وكذلك زينا لكل أمة عملهم } حتى امتنعوا عن سب الله . فذلك الذي زين لهم عملهم .

وقال الحسن : قوله تعالى{ وكذلك زينا لكل أمة عملهم } : أي زينا عليهم أعمالهم في ما أمروا به ، وفرض ، ووجب{[7597]} عليهم أن يفعلوا إلا في ما يفرض ، ولا يحل لهم أن يفعلوا . وكذلك يقول جعفر بن حرب وغيره من المعتزلة : إنه زين عليهم عملهم الذي فرض عليهم أن يعملوا ، أو يأتوا به{[7598]} . وأما لا ينبغي أن يكون{[7599]} فلا كقوله تعالى : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآية [ الحجرات : 7 ] ذكر في الإيمان التزيين وفي الكفر التكريه . ويقولون : إنه أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله : { زين لهم الشيطان أعمالهم } [ الأنفال : 48 و . . ] وقوله : { الشيطان سول لهم وأملى لهم } [ محمد : 25 ] .

فالشيطان يزين لهم المعاصي والفسوق ، فلا يحتمل أن يكون الله يزين لهم ما يزين الشيطان . فدل أنه إنما يزين لهم ما يؤمرون به ، ويفرض عليهم ، ولكن يضاف إليه التزيين ما أضيف إليه حرف الإضلال والإغواء .

وأما عندنا فالتزيين على وجهين :

[ أحدهما ]{[7600]} : تبيين من طريق الآيات والبراهين ، فذلك لا يحتمل فعل الكفر والضلال أن يكون مزينا من جهة الآيات والحجج .

والثاني : تزيين في الطباع بالشهوات والأماني ، وفعل كل واحد مزين بالشهوة والحاجة التي مكنت فيه . ولا شك أن كل كافر لو سئل عن فعله الكفر والضلال ، فيقول : هذا الذي زين لي ، وليس إضافة فعل التزيين إلى الله بأكبر وأبعد من إضافة الإضلال والإغواء ، وقد ذكرنا معنى إضافة الإضلال والإغواء إليه في غير موضع . فعلى ذلك التزيين . ويقول أيضا : إن التزيين تزيين وعد وثواب ؛ فالكافر متى يؤمن بالوعد في الآخرة والثواب فيها ؟ وهو ليس يؤمن فهذا بعيد .

ولا يحتمل ما قال الكيساني أيضا لأنه لا كل الكفرة كانوا يعبدون الأصنام ليقربهم ذلك إلى الله زلفى ، بل أكثرهم لا [ يقرون ]{[7601]} أن لهم خالقا وربا .

وتحتمل إضافة التزيين إلى الشيطان على جهة التمني والتشهي كقوله { ما هم منكم ولا منهم } [ المجادلة : 14 ] وإضافته إلى الله على القدرة عليها والسلطان ، أو أن يخلق أعمالهم مزينة عندهم مسولة ، وإضافة فعل الضلال والغواية إلى الشيطان على الدعاء إليه والترغيب فيه وإضافته إلى الله على أن يخلق فعل الضلال منهم .

وقوله تعالى : { ثم إلى ربهم مرجعهم } قد ذكرنا { فينبئهم بما كانوا يعملون } في جزيل الثواب أو في أليم عذاب ، فهو على الوعيد .


[7581]:- الواو ساقطة من الأصل وم.
[7582]:- ساقطة من الأصل وم.
[7583]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7584]:- أدرج قبلها في م: وقيل.
[7585]:-في الأصل وم: يبلغهم.
[7586]:- في الأصل: نخرج.
[7587]:- من م، في الأصل وم.
[7588]:- في الأصل وم: لا.
[7589]:- في الأصل وم: أن.
[7590]:- ساقطة من الأصل وم.
[7591]:- في الأصل وم: يحتجم.
[7592]:- في الأصل وم: أمر.
[7593]:- في الأصل وم: السب.
[7594]:- ساقطة من الأصل وم.
[7595]:- هي قراءة بعض المكيين، انظر مختصر في شواذ القرآن.
[7596]:- في الأصل: أن تقرب، في م: رجاء أن تقرب.
[7597]:- في الأصل وم: ويجب.
[7598]:- في الأصل وم: بها.
[7599]:- في الأصل وم: يقول.
[7600]:- ساقطة من الأصل وم.
[7601]:- ساقطة من الأصل وم.