ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول . وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء . قال ابن عباس : لما نزل { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] قال المشركون : لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت . وقال السدي : «لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه . فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، وأن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه . فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا تريدون ؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك . فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك وبنو عمك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم ؟ قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي ؟ قال : قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها . فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها . فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية » قالت العلماء : إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله ؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة ، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشطيان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى الله عليه وسلم وآله . وهاهنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه ؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكراً وجب الاحتراز عنه ، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسوله وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم . وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر ، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب . وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب ، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها ، يقال : عدا فلان عدواً وعدواناً وعداء إذا ظلم ظلماً يتجاوز القدر . قال الزجاج { عدواً } منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدواً وقرئ { عدوّاً } بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء . ومعنى { بغير علم } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { وكذلك } أي مثل ذلك التزيين { زينا لكل أمة عملهم } قالت الأشاعرة : فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية ، وزيفه الكعبي بقوله تعالى { وزين لهم الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] [ العنكبوت : 38 ] وبقوله { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون ، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم أن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى { كذلك زينا } بعد قوله { فيسبوا الله } مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى . وأيضاً الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري ، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيماناً وعلماً وحقاً وصدقاً ، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية ، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيماناً والجهل علماً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.