هذا إخبار من الله [ تعالى ]{[11965]} عما واجهت به الكفار نبي الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين ، في{[11966]} توعدهم إياه ومن معه بالنفي من القرية ، أو الإكراه على الرجوع في مِلَّتهم والدخول معهم فيما هم فيه . وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة .
وقوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يقول : أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا{[11967]} كارهين ما تدعونا إليه ؟
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه}، يعني الذين تكبروا عن الإيمان، وهم الكبراء، {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}، يعنون الشرك، أو لتدخلن في ملتنا، {قال أولو كنا كارهين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
" قالَ المَلأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا": يعني ب"الملأ": الجماعة من الرجال، ويعني ب"الذين استكبروا": الذين تكبروا عن الإيمان بالله والانتهاء إلى أمره واتباع رسوله شعيب لما حذّرهم شعيب بأس الله على خلافهم أمر ربهم، وكفرهم به. "لَنُخْرِجَنّك يا شُعَيْبُ "ومن تبعك وصدّقك وآمن بك، وبما جئت به معك من قريتنا. "أو لَتَعُودُنّ في مِلّتِنا" يقول: لترجعَنّ أنت وهم في ديننا وما نحن عليه. قال شعيب مجيبا لهم: "أَوَ لَوْ كُنّا كارِهِين"؟.
ومعنى الكلام: أن شعيبا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم، وتصدّوننا عن سبيل الله، ولو كنا كارهين لذلك؟...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كذلك كانوا يقولون للرسل جميعا حين قالوا: {لنخرجنّكم من أرضنا} الآية [إبراهيم: 13]. هذه كانت عادة جميع الكفرة يخوّفون الرسل بالإخراج مرة وبالقتل ثانيا.
{أو لتعودنّ في ملّتنا} يحتمل قوله تعالى: {أو لتعودنّ في ملّتنا} لما عندهم أنه كان على دينهم الذي هم عليه...فقالوا: {أو لتعودنّ في ملّتنا} على ما كان عندهم أنه على ذلك. وهو كما قالوا لصالح: {قد كنت فينا مرجوّا فينا قبل هذا} [هود: 62]، كان عندهم أنه على دينهم قبل ذلك. فعلى ذلك يحتمل قول هؤلاء {أو لتعودنّ} من العود إلى ما كان عندهم أنه على ذلك. ويحتمل على الابتداء: [ابتداء] الدخول فيها والاختبار كقوله تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257] على منع الدخول فيها لا أنهم كانوا فيها، ثم أخرجهم، فعلى ذلك الأول.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما أن (أهل) الخير لا يميلون إلا إلى أشكالهم، فأهل الشر لا ينصرون إلا من رأوا بأنه يساعدهم على ما هم عليه من أحوالهم، والأوحد في بابه مَنْ بايَنَ نهج أضرابه...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه}، يعني الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به.
قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}، لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه.
قوله تعالى: {أو لو كنا كارهين}، يعني: لو كنا، أي: وإن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم؛ وإمّا عودكم في الكفر. فإن قلت: كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} وكيف أجابهم بقوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلاّ ما ليس فيه تنفير، فضلاً عن الكبائر، فضلاً عن الكفر؟ قلت: لما قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ} فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا: {لَتَعُودُنَّ} فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراءً للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} وهو يريد عود قومه، إلاّ أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انتهى كلامه عليه السلام على هذا الوجه البديع، أخبر سبحانه بما أفهم أن قومه لم يجدوا عنه جواباً أصلاً لأنهم انتقلوا إلى الدفاع بالفعل، وهو أمارة الانقطاع، فقال مستأنفاً: {قال الملأ} أي الأشراف {الذين استكبروا} أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له بغاية الرغبة، وخصهم ليحصل تمام التسلية بقوله: {من قومه لنخرجنك} وبين غلظتهم وجفاءهم بقولهم: {يا شعيب} من غير استعطاف ولا إجلال {والذين آمنوا} ويجوز أن يتعلق قوله: {معك} ب "آمنوا "وب "نخرج" {من قريتنا} أي من المكان الجامع لنا لمفارقتكم إيانا {أو لتعودن} أي إلا أن تعودوا، أي ليكونن آخر الأمرين: إما الإخراج وإما العود {في ملتنا} أي بالسكوت عنا كما كنتم، ولم يريدوا منه العود إلى الكفر لأنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظاً قبل النبوة كإخوانه من الأنبياء عليهم السلام، بل كانوا يعدون سكوته عليه السلام -قبل إرساله إليهم من دعائهم وسب آلهتهم وعيب دينهم- كوناً في ملتهم، ومرادهم الآن رجوعه عليه السلام إلى تلك الحالة والقناعة ممن اتبعه بذلك، فيكون مرادهم بالعود حقيقة في الجميع.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات وما بعدها تتمة قصة شعيب عليه السلام. مبدوءة بجواب قومه له عما أمرهم به من البر ونهاهم عنه من المنكرات والآثام، وأنذرهم إياه من الانتقام بقوله: {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا}، ورد بأسلوب الاستئناف البياني كأمثاله من مراجعة الكلام، وتولاه الملأ منهم أي كبراء رجالهم كدأب الجماعات والأقوام، وهو:
{قال الملأ الّذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والّذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا} أي قال أشراف قومه وأكابرهم الذين استكبروا عن الإيمان له وعتوا عما أمرهم به ونهاهم عنه اتباعا لأهوائهم –وقد استضعفوه –: نقسم لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا الجامعة أو من بلادنا كلها – فلفظ القرية والبلد يطلق أحيانا على القطر أو المملكة – أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما ندين به من تقاليدنا الموروثة عن آبائنا، فتكون ملة لكم ومحيطة بكم معنا. ضمَّن العود معنى الظرفية، وهو يتعدى باللام وإلى وفي ومنه {أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى} [الإسراء: 69] يعني البحر إذ الخطاب قبله لمن مسهم الضر فيه وليس فيه من معنى الظرفية ما في قوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم} [طه: 20] يعني الأرض.
والمعنى: نقسم ليكونن أحد هذين الأمرين: إخراجكم أو عودتكم في الملة، فاختاروا لأنفسكم.
قيل إن التعبير بالعود يقتضي أنهم كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها. وهو يصدق بالمجموع فلا ينافي القول بعصمة الأنبياء من الكفر حتى قبل النبوة، على أن شعيبا عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه فيمنعهم ذلك من التعبير في شأنه بالعودة، وكونه لم يشاركهم في شركهم ولا في بخس الناس أشياءهم وهضم حقوقهم أمر سلبي لا يلتفت إليه جمهورهم، ولا يعدونه به خارجا عنهم، وقال الراغب: العود الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه إما انصرافا بالذات أو بالقول والعزيمة اه. ومنه ذمه والدعوة إلى غيره، ولا يقتضي هذا المعنى سبق الكون فيه ولا عدمه، فلا حاجة إذن إلى تصحيح التعبير بما قيل من تفسير العود بالمصير، وفيه من التكلف ما ليس في القول بالتغليب، ولاسيما في جوابه عليه السلام.
{قال أولو كنّا كارهين} يعني العودة في ملتكم على كل حال من الأحوال حتى حال الكراهة لها الناشئة عن اعتقاد بطلانها وقبحها وما يترتب عليها من الفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة؟ فالاستفهام للإنكار و "لو "للغاية.
أو أتأمروننا أن نعود فيها، وتهددوننا بالنفي من وطننا، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل، ولو كنا كارهين لكل من الأمرين؟ -على الأصل فيما يحذف متعلقه، وهو أن يتناول كل ما يصلح له، فالاستفهام للتعجب من صنيعهم واستنكار طلبهم ورفضه بدون مبالاة.
ووجه كل من الإنكار والتعجب جهل هؤلاء الملأ بكنه الدين والملة، وكونه عقيدة يدان الله بها، وأعمالا يتقرب إليه بأدائها وإن كان غنيا عنها، وإنما شرعها لتكمل الفطرة البشرية بالتزامها، وجهلهم بكون حب الوطن وإلف السكن لا يبلغ هذه المنزلة. ولجهلهم هذا ظنوا أن شعيبا عليه السلام قد يؤثر هو ومن آمن معه التمتع بالإقامة في وطنه ومجاراة أهله في كفرهم ورذائلهم على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهر للنفس من أدران الخرافات، وبالفضائل المرقية للنفس في معارج الكمال، ذلك بأن الملة عند أولئك الملأ الخاسرين رابطة تقليدية، وعصبية قومية، يجري أصحابها فيها على قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
وملة الرسل عليهم السلام ليست كذلك بل هي دين مالكٌ للنفس، حاكمٌ على الوجدان والعقل، يقصد به الكمال البشري الأعلى بمعرفة الله تعالى والقرب منه، وما يتبع ذلك من صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فإن تمكن صاحبه من إقامته في وطنه وإصلاح أهله به فهم أحق به بدءا ودواما، وإن منع فيه حريته ففتن في دينه كان تركه واجبا، فإن لم يخرج منه شعيب ومن آمن معه إخراجا وهم كارهون كما أخرج خاتم النبيين مع السابقين الأولين إلى الإسلام، خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، {وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم} [العنكبوت: 26] وقد أوجب الله تعالى الهجرة على من يستضعف في أرض وطنه فيمنع من إقامة دينه فيها، ويوجب المتعصبون للأوطان في هذا العصر الهجرة منها إذا منعوا حريتهم الشخصية فيما هو دون الدين والوجدان، بل يعز على بعضهم أن يقيم في وطنه إذا منع فيه حرية الفسق والآثام، ورُبّ أناس عز عليهم ترك وطنهم، فآثروا البقاء فيه مفتونين في دينهم، فأظهروا الكفر ليأمنوا على حياتهم، وظلوا يسرون المحافظة على الإسلام في خاصة أنفسهم، ولكنهم لم يتمكنوا من تلقينه لأولادهم وتربيتهم عليه فارتدت ذريتهم عنه في زمنهم أو من بعدهم، كما وقع لبعض مسلمي الأندلس بعد ثل الإسبانيين لعرش دولتهم العربية وإكراههم على التنصر أو الخروج من البلاد فخرج بعضهم وبقي آخرون تحت وعيد قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض –قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها: فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا* إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا* فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا} [النساء: 96- 98].
وقد قدر بعض المفسرين الفعل المحذوف من الجملة ومتعلق الكراهة هكذا: قال أتخرجوننا من وطننا بغير ذنب يقتضي الإخراج ولو كنا كارهين لمفارقته حريصين على الإقامة فيه؟ وهو تخصيص لا وجه له، فاللفظ يقتضي تقدير كراهة كل من الأمرين لحذف متعلق الكراهة، والمقام يجوز تخصيصه بالعود في ملتهم لأنه الأهم عند الأنبياء، والمناسب لبقية جوابه عليه السلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت.. إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا للّه، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكم في حياتها شرعاً إلا شرعه، ولا تتبع في حياتها منهجاً إلا منهجه.. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت -حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم اللّه حين يأتي موعده. إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة- حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة -إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل.. إنها سنة اللّه لا بد أن تجري.. (قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتعودن في ملتنا). هكذا في تبجح سافر، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش! إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد.. لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة.. نقطة المسالمة والتعايش- على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء؛ وأن يدين للسلطان الذي يشاء: في انتظار فتح اللّه وحكمه بين الفريقين -وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت.. وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه.. فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم، صدع شعيب بالحق، مستمسكاً بملته، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه اللّه منها، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله: قال: أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها. وما يكون لنا أن نعود فيها- إلا أن يشاء اللّه ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً -على اللّه توكلنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين.. وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان، ومذاقه في نفوس أهله، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه. كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع.. مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه. قال: أو لو كنا كارهين؟ يستنكر تلك القولة الفاجرة: (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا).. يقول لهم: أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا اللّه منها؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وكان إخراج المغضوب عليه من ديار قبيلته عقوبة متّبعة في العرب إذا أجمعت القبيلة على ذلك ويسمّى هذا الإخراج عند العرب بالخَلْع، والمخرَج يسمّى خليعاً.
... وقد جعلوا عود شعيب والذين معه إلى ملّة القوم مقسماً عليه فقالوا: {أو لتعودُن} ولم يقولوا: لنخرجنّكم من أرضنَا أو تعودن في ملّتنا، لأنّهم أرادوا ترديد الأمرين في حيز القسم لأنهم فاعلون أحد الأمرين لا محالة وأنّهم ملحّون في عودهم إلى ملّتهم.
وكانوا يظنّون اختياره العود إلى ملّتهم، فأكدوا هذا العود بالقسم للإشارة إلى أنّه لا مَحيد عن حصوله عوضاً عن حصول الإخراج لأن أحد الأمرين مُرضٍ للمقسمين، وأيضاً فإن التوكيد مؤذن بأنّهم إن أبوا الخروج من القرية فإنهم يكرهون على العود إلى ملّة القوم كما دل عليه قول شعيب في جوابهم: {أوَلْو كُنّا كارهين} ولما كان المقام للتوعّد والتّهديد كان ذكر الإخراج من أرضهم أهم، فلذلك قدموا القسم عليه ثم أعقبوه بالمعطوف بحرف (أوْ).
والعَوْد: الرجوع إلى ما كان فيه المرء من مكان أو عمل، وجعلوا موافقة شعيب إياهم على الكفر عوداً لأنهم يحسبون شعيباً كان على دينهم، حيث لم يكونوا يعلمون منه ما يخالف ذلك، فهم يحسبونه موافقاً لهم من قبل أن يدعو إلى ما دعا إليه.
وشأن الذين أرادهم الله للنبوءة أن يكونوا غير مشاركين لأهل الضلال من قومهم ولكنّهم يكونون قبل أن يُوحى إليهم في حالة خلو عن الإيمان حتى يهديهم الله إليه تدريجاً، وقومهم لا يعلمون باطنهم فلا حيرة في تسمية قومه مُوافقته إيّاهم عوداً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية، وحيث إنّ الملأ والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.
إنّهم كانوا مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيباً معتمدين على قوتهم وقدرتهم، كما يقول القرآن الكريم: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا).
قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير «لتعودن إلى ملتنا» أنّ شعيباً كان قبل ذلك في صفوف الوثنيين، والحال ليس كذلك، بل حيث إنّ شعيباً لم يكن مكلّفاً بالتبليغ، لذلك كان يسكت على أعمالهم، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية، في حين أنّ أحداً من النّبيين لم يكن وثنياً حتى قبل زمان النّبوة، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف، هذا مضافاً إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجهاً إلى شعيب وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه أيضاً ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.
على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات أُخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.
وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: (قال أو لو كنّا كارهين) 4؟
وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم: هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا، وتكرهوننا على أن نعتنق ديناً ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافاً إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة، ودين جبريّ؟!