الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{۞قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَٰرِهِينَ} (88)

أي ليكوننّ أحد الأمرين : إمّا إخراجكم ؛ وإمّا عودكم في الكفر .

فإن قلت : كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } وكيف أجابهم بقوله : { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلاّ ما ليس فيه تنفير ، فضلاً عن الكبائر ، فضلاً عن الكفر ؟ قلت : لما قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ } فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا : { لَتَعُودُنَّ } فغلبوا الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعاً ، إجراءً للكلام على حكم التغليب . وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال : { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } وهو يريد عود قومه ، إلاّ أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب .

فإن قلت : فما معنى قوله { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله } والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر ؟ قلت : معناه إلاّ أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف ، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً . والعبث قبيح لا يفعله الحكيم ، والدليل عليه قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون ، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل ، وقلوبهم كيف تتقلب ؛ وكيف تقسو بعد الرقة ، وتمرض بعد الصحة ، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان . { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان . ويجوز أن يكون قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } حسماً لطمعهم في العود ؛ لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة . { أَوَلوْ كُنَّا كارهين } الهمزة للاستفهام ، والواو واو الحال ، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ، ومع كوننا كارهين . وما يكون لنا ، وما ينبغي لنا . وما يصحّ لنا { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } احكم بيننا . والفتاحة ؛ الحكومة ، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا { وَبَيْنَ قَوْمِنَا } وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } كقوله : { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } [ يونس : 159 ] .

فإن قلت : كيف أسلوب قوله : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } ؟ قلت : هو إخبار مقيد بالشرط ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب ، كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام . لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر ، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب . حيث يزعم أن لله نداً ولا ندّ له . والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه ، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل . والثاني : أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام ، بمعنى : والله لقد افترينا على الله كذباً .