فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَٰرِهِينَ} (88)

{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين 88 } .

{ قال الملأ الذين استكبروا } أي الأشراف المستكبرين عن الإيمان { من قومه } استئناف بياني ، كأنه قيل : فماذا قالوا بعد سماعهم هذه المواعظ من شعيب ؟ { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } . لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه ، بل جاوزوا ذلك بغيا وبطرا وأشرا إلى توعد نبيهم ومن آمن به بالإخراج من قريتهم أو عودهم في ملتهم الكفرية ، أي لابد من أحد الأمرين إما الإخراج أو العود .

ومقصودهم الأصلي هو العود ، وإنما ذكر النفي والإجلاء لمحض القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه لجواب الإخراج على ما هو ظاهر النظم ، وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان أي والله لنخرجنك وأتباعك ، وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريق ما قبله لما أن مرادهم العود بطريق الاختيار وصورة الطواعية .

وكلمة ( عاد ) لها في لسانهم استعمالان ( أحدهما ) وهو الأصل أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول ( والثاني ) استعمالها بمعنى صار .

قال السمين : واستشكلوا على كونها بمعناها الأصلي أن شعيبا لم يكن قط على دينهم ولا في ملتهم ، فكيف يحسن أن يقال : أو لتعودن أي ترجعن إلى حالتكم الأولى والخطاب له ولأتباعه .

وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه :

( أحدهما ) أن هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس على العموم والإيهام لهم أنه كان على دينهم وعلى ملتهم .

الثاني : أن يراد بعوده رجوعُه إلى حاله قبل بعثه من السكوت ؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه وهو ساكت عنهم ، برئ من معبوداتهم غير الله .

الثالث : تغليب الجماعة على الواحد ؛ لأنهم لما أصبحوا مع قومه في الإخراج حكموا عليه وعليهم بالعود إلى الملة تغيبا لهم عليه .

وأما إذا جعلناها بمعنى صار فلا إشكال في ذلك إذ المعنى لتصيرن في ملتنا بعد أن لم تكونوا ، وفي ملتنا حال على الأول ، خبر على الثاني ، وعدى عاد بفي الظرفية تنبيها على أن الملة صارت لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم . انتهى .

والأولى ما قال الزجاج ، يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء ، يقال عاد إلي من فلان مكروه أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك ، فلا يرد ما يقال : كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولا ، ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم .

والقرية هي مدين وبينها وبين مصر ثمانية مراحل .

{ قال أو لو كنا كارهين } الهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود ، أي أتعيدوننا في ملتكم حال كراهتنا للعود إليها ، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها ، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعا . والمعنى ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ، ولا يصلح لكم ذلك ، فإن المكره لا اختيار له ، ولا تعد موافقته مكرها موافقة ، ولا عوده إلى ملتكم عودا .

وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام .