وقوله تعالى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } : هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة ، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا ، ويحلفون ما فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم بما عملت .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة ، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي ، حدثنا أبو عامر الأسدي ، حدثنا سفيان ، عن عبيد المُكتب ، عن الفُضَيْل بن عمرو ، عن الشعبي ، {[24795]} عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : «أتدرون مم أضحك ؟ » قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : رب{[24796]} ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى . فيقول : لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي . فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا ، وبالكرام الكاتبين{[24797]} شهودا . فيختم على فيه ، ويُقال لأركانه : انطقي . فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا ، فعنكنَّ كنتُ أناضل » .
وقد رواه مسلم والنسائي ، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبي النضر ، عن عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ، عن سفيان - هو الثوري - به . {[24798]} ثم قال النسائي : [ لا أعلم{[24799]} أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله تعالى أعلم .
كذا قال ، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي - وهو العَقَدِيّ - عن سفيان .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن بَهز{[24800]} بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة{[24801]} أفواهكم بالفِدَام ، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه » . رواه النسائي ]{[24802]} عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، به . {[24803]}
وقال سفيان بن عيينة ، عن سُهَيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل ، قال فيه : «ثم يلقى{[24804]} الثالث فيقول : ما أنت ؟ فيقول : أنا عبدك ، آمنت بك وبنبيك وبكتابك ، وصمت وصليت وتصدقت - ويثني بخير ما استطاع - قال : فيقال له : ألا نبعث عليك شاهدنا{[24805]} ؟ قال : فيفكر في نفسه ، من الذي يشهد عليه ، فيُختَم على فيه ، ويقال لفخذه : انطقي . فتنطق{[24806]} فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، وذلك المنافق ، وذلك ليعذر من نفسه . وذلك الذي سخط الله عليه » .
ورواه مسلم وأبو داود ، من حديث سفيان بن عيينة ، به بطوله . {[24807]}
ثم قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد ، {[24808]} عن عقبة بن عامر ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه ، فَخذُه من الرِّجل اليسرى » . {[24809]} .
ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف ، عن عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل بن عياش ، به مثله . {[24810]}
وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد ، رحمه الله ، فقال : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عُبَيد الحضرمي ، عمن حَدَّثه عن عقبة بن عامر ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه ، فَخذه من الرجل الشمال » . {[24811]}
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا يونس بن عُبَيد ، عن حُمَيد بن هلال قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى{[24812]} هو الأشعري ، رضي الله عنه - : يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة ، فَيَعْرضُ عليه{[24813]} رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه ، فيعترف{[24814]} فيقول : نعم أيْ رب ، عملتُ عملتُ عملت . قال : فيغفر الله له ذنوبه ، ويستره منها . قال : فما على الأرض خَليقة ترى{[24815]} من تلك الذنوب شيئًا ، وتبدو حسناته ، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها ، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب ، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله ، فيجحد وفيقول : أي رب ، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل . فيقول له الملك : أما عملت كذا ، في يوم كذا ، في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه . فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه . قال أبو موسى الأشعري : فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ{[24816]} اليمنى ، ثم تلا { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }{[24817]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ : اليوم نطبع على أفواه المشركين ، وذلك يوم القيامة وَتُكَلّمُنا أيْدِيهِمْ بما عملوا في الدنيا من معاصي الله وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ قيل : إن الذي ينطق من أرجلهم : أفخاذهم من الرجل اليُسرى بَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ في الدنيا من الاَثام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا يونس بن عبيد ، عن حميد بن هلال ، قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى : يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة ، فيعرض عليه ربّه عمله فيما بينه وبينه ، فيعترف فيقول : نعم أي ربّ عملت عملت عملت ، قال : فيغفر الله لهم ذنوبه ، ويستره منها ، فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئا ، وتبدو حسناته ، فودّ أن الناس كلهم يرونها ويدَعى الكافر والمنافق للحساب ، فيعرض عليه ربه عمله فيجحده ، ويقول : أي ربّ ، وعزّتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما لم أعمل ، فيقول له الملك : أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزّتك أي ربّ ، ما عملته ، فإذا فعل ذلك ختم على فيه . قال الأشعري : فإني أحسب أوّل ما ينطق منه لفخذه اليمنى ، ثم تلا : اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ وتُكَلّمُنا أيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثني يحيى ، عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن الشعبيّ ، قال : يقال للرجل يوم القيامة : عملت كذا وكذا ، فيقول : ما عملت ، فيختم على فيه ، وتنطق جوارحه ، فيقول لجوارحه : أبعدكنّ الله ، ما خاصمت إلا فيكنّ .
حدثنا بشر ، قلا : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ . . . الاَية ، قال : قد كانت خصومات وكلام ، فكان هذا آخره ، وَخَتَمَ على أفْوَاهِهِمْ .
حدثني محمد بن عوف الطائي ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عياش ، عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن عقبة بن عامر ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «أوّلُ شَيْءٍ يَتَكَلّمُ مِنَ الإنْسانِ ، يَوْمَ يَخْتِمُ اللّهُ على الأَفْوَاهِ ، فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى » .
الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وقوله : { اليَوْمَ } ظرف متعلق ب { نَخْتِمُ } .
والقول في لفظ { اليوم } كالقول في نظائره الثلاثة المتقدمة ، وهو تنويه بذكره بحصول هذا الحال العجيب فيه ، وهو انتقال النطق من موضعه المعتاد إلى الأيدي والأرجل .
وضمائر الغيبة في { أفواههم أيديهم أرجلهم يكسبون عائدة على الذين خوطبوا بقوله : { هذه جهنَّمُ التي كُنتم تُوعَدُون } [ يس : 63 ] على طريقة الالتفات . وأصل النظم : اليوم نختم على أفواهكم وتكلمنا أيديكم وتشهد أرجلكم بما كنتم تكسبون . ومواجهتهم بهذا الإِعلام تأييس لهم بأنهم لا ينفعهم إنكار ما أُطلعوا عليه من صحائف أعمالهم كما قال تعالى : { إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] .
وقد طوي في هذه الآية ما ورد تفصيله في آي آخر فقد قال تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 2223 ] وقال : { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين } [ يونس : 2829 ] .
وفي « صحيح مسلم » عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخاطب العبد ربّه يقول : يا رب ألم تُجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى ، فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ، فيقول الله : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، فيُخْتم على فيه . فيقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنَّ وسُحْقاً فعنكُنّ كنتُ أناضل " وإنما طُوِي ذكر الداعي إلى خطابهم بهذا الكلام لأنه لم يتعلق به غرض هنا فاقتصر على المقصود .
وقد يخيل تعارض بين هذه الآية وبين قوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [ النور : 24 ] . ولا تعارض لأن آية يس في أحوال المشركين وآية سورة النور في أحوال المنافقين . والمراد بتكلم الأيدي تكلمها بالشهادة ، والمراد بشهادة الأرجل نطقها بالشهادة ، ففي كلتا الجملتين احتباك . والتقدير : وتكلمنا أيديهم فتشهد وتكلمنا أرجلهم فتشهد .
ويتعلق { بِمَا كانُوا يَكْسِبون } بكل من فعلي { تكلمنا وتشهد } على وجه التنازع . وما يكسبونه : هو الشرك وفروعه . وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما ألحقوا به من الأذى .