تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (27)

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات ، ويزدادون{[14205]} على ذلك ، عطف بذكر حال الأشقياء ، فذكر عدله تعالى فيهم ، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها ، لا يزيدهم على ذلك { وَتَرْهَقُهُم } أي : تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها ، كما قال تعالى : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، وقال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَاب } [ إبراهيم : 42 - 44 ] ، وقوله { مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } أي : من مانع ولا واق يقيهم العذاب ، كما قال تعالى : { يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ] .

وقوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا } إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ آل عمران : 106 ، 107 ] ، وكما قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } [ عبس : 38 - 42 ] . الآية .


[14205]:- في ت : "ويزادون".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَسَبُواْ السّيّئَاتِ جَزَآءُ سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ مّا لَهُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مّنَ الْلّيْلِ مُظْلِماً أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

يقول تعالى ذكره : والذين عملوا السيئات في الدنيا ، فعصوا الله فيها ، وكفروا به وبرسوله ، جزاء سيئة من عمله السيء الذي عمله في الدنيا بمثلها من عقاب الله في الاَخرة . وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ يقول : وتغشاهم ذلة وهوان بعقاب الله إياهم . ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ يقول : ما لهم من الله من مانع يمنعهم إذا عاقبهم يحول بينه وبينهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ قال : تغشاهم ذلة وشدّة .

واختلف أهل العربية في الرافع للجزاء ، فقال بعض نحويي الكوفة : رفع بإضمار «لهم » ، كأنه قيل : ولهم جزاء السيئة بمثلها ، كما قال : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجّ والمعنى : فعليه صيام ثلاثة أيام . قال : وإن شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله : وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ بمِثْلِها . وقال بعض نحويي البصرة : الجزاء مرفوع بالابتداء : وخبره بمثلها . قال : ومعنى الكلام : جزاء سيئة مثلها ، وزيدت الياء كما زيدت في قوله : بحسبك قول السوء . وقد أنكر ذلك من قول بعضهم فقال : يجوز أن تكون الباء في «حسب » ( زائدة ) ، لأن التأويل : إن قلت السوء فهو حسبك ، فلما لم تدخل في الجزاء أدخلت في حسب بحسبك أن تقوم إن قمت فهو حسبك ، فإن مدح ما بعد حسب أدخلت الباء فيما بعدها كقولك : حسبك بزيد ، ولا يجوز : بحسبك زيد ، لأن زيدا الممدوح فليس بتأويل جزاء .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون الجزاء مرفوعا بإضمار بمعنى : فلهم جزاء سيئة بمثلها لأن الله قال في الآية التي قبلها : لِلّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيادَةٌ فوصف ما أعدّ لأوليائه ، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه ، فأشبه بالكلام أن يقال : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة . وإذا وجه ذلك إلى هذا المعنى كانت الياء للجزاء .

القول في تأويل قوله تعالى : كأنّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعا مِنَ اللّيْلِ مُظْلِما أُولَئِكَ أصَحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

يقول تعالى ذكره : كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات قطعا من الليل ، وهي جمع قطعة . وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ، ما :

حدثنا به محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة : كأنما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعا مِنَ اللّيْلِ مُظْلِما قال : ظلمة من الليل .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى : قِطَعا فقرأته عامة قرّاء الأمصار : قِطَعا بفتح الطاء على معنى جمع قطعة ، وعلى معنى أن تأويل ذلك : كأنما أغشيت وجه كلّ إنسان منهم قطعة من سواد الليل ، ثم جمع ذلك فقيل : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد ، إذ جمع «الوجه » . وقرأه بعض متأخري القرّاء : «قِطْعا » بسكون الطاء ، بمعنى : كأنما أغشيت وجوههم سوادا من الليل ، وبقية من الليل ، ساعة منه ، كما قال : فَأَسْرِ بأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللّيْلِ أي ببقية قد بقيت منه ، ويعتلّ لتصحيح قراءته ذلك كذلك أنه في مصحف أبيّ : «ويغشى وجوههم قطع من الليل مظلم » .

والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي قراءة ذلك بفتح الطاء ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار على تصويبها وشذوذ ما عداها . وحسب الأخرى دلالة على فسادها ، خروج قارئها عما عليه قرّاء أهل الأمصار والإسلام .

فإن قال لنا قائل : فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت ، فما وجه تذكير المظلم وتوحيده ، وهو من نعت القِطَع والقِطْع جمع لمؤنث ؟ قيل في تذكيره ذلك وجهان : أحدهما : أن يكون قطعا من الليل ، وإن يكون من نعت الليل ، فلما كان نكرة والليل معرفة نصب على القطع . فيكون معنى الكلام حينئذ : كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل المظلم ، ثم حذفت الألف واللام من «المظلم » ، فلما صار نكرة وهو من نعت الليل نصب على القطع وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك حالاً ، والكوفيّون قطعا . والوجه الاَخر على نحو قول الشاعر :

*** لو أنّ مِدْحَةَ حَيّ مُنْشِرٌ أحَدا ***

والوجه الأول أحسن وجهيه .

وقوله : أُولَئِكَ أصَحابُ النّارِ يقول : هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهل النار الذين هم أهلها ، هُمْ فِيها خالِدُونَ يقول : هم فيها ماكثون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةِۭ بِمِثۡلِهَا وَتَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ مَّا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِنۡ عَاصِمٖۖ كَأَنَّمَآ أُغۡشِيَتۡ وُجُوهُهُمۡ قِطَعٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مُظۡلِمًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (27)

وقوله : { والذين كسبوا السيئات } الآية ، اختلف النحويون في رفع «الجزاء » بم هو ؟ فقالت فرقة : التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها ، وقالت فرقة : التقدير جزاء سيئة مثلها والباء زائدة .

قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون رفع «الجزاء » على المبتدأ وخبره في { الذين } لأن { الذين } معطوف على قوله { للذين أحسنوا } فكأنه قال والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وعلى الوجه الآخر فقوله { والذين كسبوا السيئات } رفع بالابتداء ، وتعم { السيئات } ها هنا الكفر والمعاصي فمثل سيئة الكفر التخليد في النار ، ومثل سيئة المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى . و «العاصم » المنجي « ، ومنه قوله تعالى { إلى جبل يعصمني من الماء }{[6088]} . و { أغشيت } كسيت ومنه الغشاوة ، و » القطع «جمع قطعة ، وقرأ ابن كثير والكسائي » قطْعاً «من الليل بسكون الطاء ، وقرأ الباقون بفتح الطاء ، و » القطع «الجزء من الليل ومنه قوله تعالى : { فاسر بأهلك بقطع من الليل }{[6089]} وهذا يراد به الجزء من زمان الليل ، وفي هذه الآية الجزء من سواده{[6090]} . و { مظلماً } ، نعت ل » قطع « ، ويجوز أن يكون حالاً من الذكر الذي في قوله { من الليل }{[6091]} ، فإذا كان نعتاً فكان حقه أن يكون قبل الجملة ولكن قد يجيء بعدها ، وتقدير الجملة قطعاً استقر من الليل » مظلماً «على نحو قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك }{[6092]} ومن قرأ » قطعاً «على جمع قطعة فنصب » مظلماً «على الحال { من الليل } والعامل في الحال { من } إذ هي العامل في ذي الحال{[6093]} ، وقرأ أبي بن كعب ، » كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم{[6094]}« ، وقرأ ابن أبي عبلة » قطَع من الليل مظلم «بتحريك الطاء في قطع .


[6088]:- من الآية (43) من سورة (هود).
[6089]:- من الآية (81) من سورة (هود)، والآية (65) من سورة (الحجر).
[6090]:- أي: يراد الزمان من الليل في آية هود وآية الحجر، حيث طلب إلى لوط عليه السلام أن يسري بأهله في هذا الزمن من الليل، أما في آيتنا {كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل} فيراد به جزء من سواده وظلامه.
[6091]:- يريد بقوله: "الذكر" الضمير في متعلق {من الليل}
[6092]:- من الآية (92) من سورة (الأنعام)، وقد نقل أبو حيان هذا الكلام عن ابن عطية ثم عقب عليه بقوله: "ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: فقطعا كائنا من الليل مظلما".
[6093]:- قال في تفسير "أبو السعود": "العامل فيه (أغشيت) لأنه العامل في (قطعا)، وهو موصوف بالجار والمجرور، والعامل في الموصوف عامل في الصفة، أو معنى الفعل في (من الليل). وهذا التوضيح مذكور أيضا في الكشاف.
[6094]:- بسكون الطاء في (قطع)، أما قراءة ابن أبي عبلة فالطاء مفتوحة كما قال ابن عطية.