تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي بقدر مباركًا ، رزقًا للعباد وغياثًا{[10988]} للخلائق ، رحمة من الله لخلقه { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } كَمَا قَالَ { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ]{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا } أي : زرعًا وشجرًا أخضر ، ثم بعد ذلك يخلق فيه الحب والثمر ؛ ولهذا قال : { نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا } أي : يركب بعضه بعضا ، كالسنابل ونحوها { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } أي : جمع قِنو وهي عُذُوق الرّطب { دَانِيَةٌ } أي : قريبة من المتناول ، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس : { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } يعني بالقنوان الدانية : قصار النخل اللاصقة عذوقها{[10989]} بالأرض . رواه ابن جرير .

قال ابن جرير : وأهل الحجاز يقولون : قِنْوان ، وقيس يقولون : قُنْوان ، وقال امرؤ القيس :

فَأَثَّت أعاليه وآدت أصولهُ *** ومَالَ بقنْوانٍ من البُسر أحْمَرَا

قال : وتميم يقولون{[10990]} قُنْيَان بالياء - قال : وهي جمع قنو ، كما أن صنوان جمع صنو{[10991]}

وقوله : { وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } أي : ونخرج منه جنات من أعناب ، وهذان النوعان هما أشرف عند أهل الحجاز ، وربما كانا{[10992]} خيار الثمار في الدنيا ، كما امتن تعالى بهما على عباده ، في قوله : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [ النحل : 67 ] ، وكان ذلك قبل تحريم الخمر .

وقال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ يس : 34 ] .

وقوله : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال قتادة وغيره : يتشابه في الورق ، قريب الشكل بعضه من بعض ، ويتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا .

وقوله : { انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } أي : نضجه ، قاله البراء بن عازب ، وابن عباس ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغيرهم . أي : فكروا في قُدْرة خالقه من العدم إلى الوجود ، بعد أن كان حَطَبًا صار عِنبًا ورطبًا وغير ذلك ، مما خلق تعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، كما قال تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ [ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ]{[10993]} } [ الرعد : 4 ] ولهذا قال هاهنا { إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ } أي : دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون به ، ويتبعون رسله .


[10988]:في أ: "غياثا".
[10989]:في م: "عروقها".
[10990]:في أ: "تقول".
[10991]:البيت في تفسير الطبري (11/575) ولسان العرب، مادة (قنا).
[10992]:في م: "أنهما".
[10993]:زيادة من م، وفي هـ: "الآية".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .

يقول تعالى ذكره : والله الذي له العبادة خالصة لا شركة فيه لشيء سواه ، هو الإله الّذي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاء مَاءً فأخْرَجْنا به نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحشس ، وأرزاق بني آدم وأقواتهم ما يتغذّون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون .

وإنما معنى قوله : فَأخْرَجْنَا بِهِ نَباتَ كُلّ شَيْءٍ : فأخرجنا به ما ينبت به كلّ شيء وينمو عليه ويصلح . ولو قيل معناه : فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات فيكون كلّ شيء هو أصناف النبات ، كان مذهباً وإن كان الوجه الصحيح هو القول الأوّل .

وقوله : فأخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً يقول : فأخرجنا منه يعني من الماء الذي أنزلناه من السماء خضراً رطباً من الزرع والخَضِرُ : هو الأخضر ، كقول العرب : أرنيها نَمرَةً أُرِكْها مَطِرَةً ، يقال : خَضِرَت الأرضُ خَضَراً وَخَضارة ، والخضر : رطب البقول ، ويقال : نخلة خضيرة : إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج ، وقد اختُضر الرجل واغتضر : إذا مات شابّا مصححاً ، ويقال : هو لك خضراً مضراً : أي هنيئاً مريئاً . قوله : نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَكِباً يقول : نخرج من الخضر حبّا ، يعني : ما في السنبل ، سنبل الحنطة والشعير والأرز ، وما أشبه ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضاً .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مِنْه خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَاكِباً فهذا السنبل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ .

يقول تعالى ذكره : ومن النخل من طلعها قنوان دانية ولذلك رفعت «القنوان » . والقنوان : جمع قِنْو ، كما الصنوان : جمع صِنْو ، وهو العِذْق ، يقال للواحد : هو قِنو وقُنْو وقَنَا : يثنى قِنوانِ ، ويجمع قِنوانٌ وقُنْوانٌ ، قالوا في جمع قليله : ثلاثة أقناء ، والقِنْوان : من لغة الحجاز ، والقنوان : من لغة قيس وقال امرؤ القيس :

فأثّتْ أعالِيهِ وآدَتْ أُصُولُهُ ***وَمالَ بِقِنْوَانٍ مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا

وقنيان جميعاً وقال آخر :

لَهَا ذَنَبٌ كالْقِنْوِ قَدْ مَذِلَتْ بِهِ ***وأسْحَمَ للتّخْطارِ بَعْدَ التّشَذّرِ

وتميم تقول : قنيان بالياء . ويعني بقوله : «دانية » : قريبة متهدلة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني بالقنوان الدانية : قصار النخل لاصقة عذوقها بالأرض .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : عذوق متهدلة .

حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يقول : متهدلة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، في قوله : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : قريبة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : قريبة .

حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلُعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : الدانية لتهدّل العذوق من الطلع .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني : النخل القصار الملتزقة بالأرض ، والقنوان : طلعه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه .

يقول تعالى ذكره : وأخرجنا أيضاً جنات من أعناب ، يعني : بساتين من أعناب .

واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة القرّاء : وَجَنّاتٍ نصباً ، غير أن التاء كسرت لأنها تاء جمع المؤنث ، وهي تخفض ي موضع النصب . وقد :

حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، عن الكسائي ، قال : أخبرنا حمزة ، عن الأعمش ، أنه قرأ : وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ بالرفع ، فرفع «جنات » على إتباعها «القنوان » في الإعراب ، وإن لم تكن من جنسها ، كما قال الشاعر :

ورأيْت زَوْجَكِ في الوَغَى ***مُتَقَلّداً سَيْفاً وَرُمْحَا

والقراءة التي لا أتجيز أن يُقرأ ذلك إلا بها النصب وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها والقراءة بها ورفضهم ما عداها ، وبُعْد معنى ذلك من الصواب إذ قرىء رفعاً . وقوله : والزّيْتُونَ والرّمّانِ عطف بالزيتون على «الجنات » بمعنى : وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه .

وكان قتادة يقول في معنى مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه ما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه قال : مشتبهاً ورقه ، مختلفاً تمره .

وجائز أن يكون مراداً به : مشتبهاً في الخلق مختلفاً في الطعم ومعنى الكلام : وشجر الزيتون والرمان ، فاكتفى من ذكر الشجر بذكر ثمره ، كما قيل : وَاسأل القَرْيَةَ فاكتفى بذكر القرية من ذكر أهلها ، لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه .

القول في تأويل قوله تعالى : انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة : انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ بفتح الثاء والميم ، وقرأه بعض قراء أهل مكة وعامة قرّاء الكوفيين : إلى ثُمُرِهِ بضم الثاء والميم . فكأنّ من فتح الثاء والميم من ذلك وجّه معنى الكلام : انظروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمر وأن الثّمَر جمع ثمرة ، كما القَصَب جمع قصبة ، والخشب جمع خشبة . وكأن من ضمّ الثاء والميم ، وجه ذلك إلى أنه جمع ثمار ، كما الحُمُر جمع حمار ، والجُرُب جمع جراب . وقد :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، أنه كان يقرأ : «إلى ثُمُرِهِ » يقول : هو أصناف المال .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا بن أبي حماد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الله ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، قال الثّمُر : هو المال ، والثّمَر : ثمر النخل .

وأولى القراءتين في ذلك عند بالصواب ، قراءة من قرأ : انْظُرُوا إلى ثُمُرِهِ بضمّ الثاء والميم ، لأن الله جلّ ثناؤه وصف أصنافاً من المال ، كما قال يحيى بن وثاب . وكذلك حبّ الزرع المتراكب ، وقنوان النخل الدانية ، والجنات من الأعناب والزيتون والرمان ، فكان ذلك أنواعاً من الثمر ، فجمعت الثمرة ثَمراً ثم جمع الثمر ثماراً ، ثم جمع ذلك فقيل : «انظروا إلى ثُمُره » ، فكان ذلك جمع الثمار ، والثمار جمع الثمرة ، وإثماره : عقد الثمر .

وأما قوله : وَيَنْعِهِ فإنه نضجه وبلوغه حين يبلغ . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في «يَنْعِهِ » إذا فتحت ياؤه : هو جمع يانع ، كما التّجْر : جمع تاجر ، والصّحْب : جمع صاحب . وكان بعض أهل مكة ينكر ذلك ويرى أنه مصدر ، من قولهم : ينع الثمر فهو يَيْنَع يَنْعاً ، ويحكي في مصدره عن العرب لغات ثلاثاً : يَنْع ، ويُنْعٌ ، ويَنَع ، وكذلك في النّضْج النّضْج والنّضَج .

وأما في قراءة من قرأ ذلك : «ويَانِعِهِ » فإنه يعني به : وناضجه وبالغه وقد يجوز في مصدره ينُوعاً ، ومسموع عند العرب : أينعت الثمرة تونع إيناعاً ومن لغة اللذين قالوا يَنَع ، قول الشاعر :

فِي قِبابٍ عِنْدَ دَسْكَرَةٍ ***حَوْلَهَا الزّيْتُونُ قَدْ يَنَعا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ويَنْعِهِ يعني : إذا نضج .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : انْطُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ قال : ينعه : نضجه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ ويَنْعِهِ أي نضجه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَيَنْعِهِ قال : نضجه .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ويَنْعِهِ يقول : ونضجه .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَنْعِهِ قال : يعني : نضجه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَيَنْعِهِ قال : نضجه .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ فِي ذَلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

يقول تعالى ذكره : إن في إنزال الله تعالى من السماء الماء الذي أخرج به نبات كلّ شيء ، والخضر الذي أخرج منه الحبّ المتراكب ، وسائر ما عدّد في هذه الاَية من صنوف خلقه لاَيَاتٍ يقول : في ذلكم أيها الناس إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره ، وعند ينعه وانتهائه ، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرّفه في زيادته ونموّه ، علمتم أن له مدبراً ليس كمثله شيء ، ولا تصلح العبادة إلاّ له دون الاَلهة والأنداد ، وكان فيه حجج وبرهان وبيان لَقوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول : لقوم يصدّقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء . وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون ، لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها ، دون من قد طبع على قلبه فلا يعرف حقّا من باطل ولا يتبين هدى من ضلالة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

{ وهو الذي أنزل من السماء ماء } من السحاب أو من جانب السماء . { فأخرجنا } على تلوين الخطاب . { به } بالماء . { نبات كل شيء } نبت كل صنف من النبات والمعنى : إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة المسقية بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى : { يسقى بماء واحد } ونفضل بعضها على بعض في الأكل . { فأخرجنا منه } من النبات أو الماء . { خضرا } شيئا أخضر يقال أخضر وخضر كأعور وعور ، وهو الخارج من الحبة المتشعب . { نخرج منه } من الخضر . { حبا متراكبا } وهو السنبل . { ومن النخل من طلعها قنوان } أي وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ، أو من النخل شيء من طلعها قنوان ، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو . وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع . { دانية } قريبة من المتناول ، أو متلفة قريب بعضها من بعض ، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها . { وجنات من أعناب } عطف على نبات كل شيء . وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات ، ولا يجوز عطفه على { قنوان } إذ العنب لا يخرج من النخل . { والزيتون والرمان } أيضا عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم . { مشتبها وغير متشابه } حال من الرمان ، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم . { انظروا إلى ثمره } أي ثمر كل واحد من ذلك . وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء والميم ، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب ، أو ثمار ككتاب وكتب . { إذا أثمر } إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به . { وينعه } وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة ، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت . وقيل جمع يانع كتاجر وتجر . وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعة . { إن في ذلك لآيات قوم يؤمنون } أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده ، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ، ويرجح ما يقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده . ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال : { وجعلوا لله شركاء الجن }