فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

{ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون 99 وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون 100 } .

{ وهو الذي أنزل من السماء ماء } هذا نوع آخر من عجائب مخلوقاته ، والماء هو ماء المطر قيل ينزل المطر من السماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض .

{ فأخرجنا به } فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إظهارا للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه ، والضمير في به عائد إلى الماء أي بسببه ، فالسبب واحد والمسببات كثيرة { نبات كل شيء } يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة ، وقيل المعنى رزق كل شيء من الأنعام والبهائم والطير والوحوش وبني آدم وأقواتهم ، والأول أولى .

ثم فصل هذا الإجمال فقال : { فأخرجنا منه خضرا } قال الأخفش : أي أخضر ، والخضر رطب البقول ، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة ، وقيل يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب وجميع الزروع والبقول .

{ نخرج منه حبا متراكبا } أي نخرج من تلك الأغصان الخضر حبا مركبا بعضه على بعض كما في السنابل ، قال السدي : أي سنبل القمح والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب ، وفي تقديم الزرع على النخل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر ، لأنه القوت المألوف والتعبير بالمضارع مع أن المقام للماضي لاستحضار الصورة الغريبة .

{ ومن النخل } اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث قال تعالى : { كأنهم أعجاز نخل خاوية } وقال تعالى : { كأنهم أعجاز نخل منقعر } .

{ من طلعها قنوان } قرئ بكسر القاف وفتحها باعتبار اختلاف اللغتين لغة قيس ولغة أهل الحجاز ، والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض ، والإغريض يسمى طلعا أيضا وهو ما يكون في قلب الطلع ، والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه يسمى عذقا ، وهو القنو ، وجمعه قنوان مثل صنو وصنوان ، والفرق بين جمعه وتثبيته أن المثنى مكسور النون ، والجمع على ما يقتضيه الإعراب ، والقنو العذق ، والمعنى أن القنوان أصله من الطلع والعذق هو عنقود النخل ، وقيل القنوان الجمار أو العراجين .

{ دانية } قريبة ينالها القائم والقاعد ، وقال مجاهد : متدلية ، وقال الضحاك : قصار ملتصقة بالأرض أي دانية في المجتني لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها قال الزجاج : المعنى منها دامية ومنها بعيدة فحذف ومثله { سرابيل لا تقيكم الحر } وخص الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان وذلك فيما يقرب تناوله أكثر .

وقال ابن عباس : قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض ، وعنه قنوان الكبائس والدانية المنصوبة ، وقال أيضا تهدل العذوق من الطلع ، وذكر الطلع مع النخل لأنه طعام وإدام دون سائر الأكمام ، وتقديم النبات لتقدم القوت على الفاكهة .

{ وجنات } أي ولهم جنات ، قاله النحاس وأجازه سيبويه والكسائي والفراء ، وأما على النصب فالتقدير وأخرجنا به جنات أي بساتين كائنة { من أعناب والزيتون والرمان } أي وأخرجنا شجرهما { مشتبها وغير متشابه } أي كل واحد منهما يشبه بعضه بعضا في بعض أوصافه ، ولا يشبهه في البعض الآخر .

وقيل أن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن وباعتبار حجمه ، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم ، قال قتادة : متشابها ورقه مختلفا ثمره لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان ، يقال مشتبه ومتشابه بمعنى كما يقال اشتبه وتشابه كذلك .

وذكر سبحانه في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفواكه ، وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار ، وإنما ذكر العنب عقب النخلة لأنها من أشرف أنواع الفاكهة ، ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال ، ثم ذكر عقبه الرمان لما فيه من الفوائد العظيمة لأنه فاكهة ودواء وقيل خص الزيتون والرمان لقرب منابتهما من العرب كما في قول الله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } .

{ انظروا إلى ثمره } أي ثمر كل واحد مما ذكر يعني رطبه وعنبه ، قاله محمد بن كعب القرظي قرئ ثمره بفتح الثاء والميم وبضمهما وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر ، وخشبة وخشب { إذا أثمر } أي إذا أخرج ثمره كيف يخرج ضعيفا لا ينتفع به { وينفعه } عن البراء قال : نضجه أي إدراكه كيف يعود شيئا جامعا لمنافع .

أمرهم الله سبحانه بأن ينظروا نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر وإلى ينعه إذا ينع كيف أخرج هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة ونقلها من حال إلى حال ، والثمر في اللغة جناء الشجر واليانع الناضج الذي قد أدرك وحان قطافه ، قال ابن الأنباري : الينع جمع يانع كركب وراكب وقال الفراء : أينع أحمر .

{ إن في ذلكم } الإشارة إلى ما تقدم ذكره مجملا ومفصلا { لآيات } أي لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته ، فإن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمها الألباب ، لا يكاد يكون إلا بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يقاويه .

{ لقوم يؤمنون } بالله استدلالا بما يشاهدونه من عجائب مخلوقاته التي قصها عليهم ، وقيل معنى يؤمنون يصدقون يعني أن الذي يقدر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم .