غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

91

ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال { وهو الذي أنزل من السماء ماء } قيل : أي من جانب السماء وقيل : أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت . وقال أكثر أهل الظاهر : أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد . ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم . قال ابن عباس : يريد بالماء هاهنا المطر ، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك . والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها . { فأخرجنا به } أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه { نبات كل شيء } قال الفراء : أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك .

وفي الآية التفاتان : الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل «نحن الذين أنزلنا » والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة ، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك . ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله { إن الله فالق الحب والنوى } فقال { فأخرجنا منه } أي من النبات { خضراً } شيئاً أخضر طرياً وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة . { نخرج منه } أي من ذلك الخضر { حباً متراكباً } بعضه على بعض . قال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة ، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر . والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة . ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال { ومن النخل } وهو خبر وقوله { من طلعها } بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل { قنوان } أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه . والتقدير : ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو . والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب ، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة . قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها . وعنه أيضاً أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض . قال الزجاج : ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] ويحتمل أن يقال : ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم . وقيل : أراد بكونها دانية أنها سهلة المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول ، وأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها بالثمر لا تنتظر الطول { وجنات من أعناب } بالنصب عطفاً على { خضراً } أي وأخرجنا به جنات من أعناب . ومن قرأ بالرفع فعلى أنها مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب ، أو وجنات من أعناب مخرجة ، ولا يجوز أن يكون عطفاً على قنوان وإن جوّزه في الكشاف ، إذا يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب . أما قوله { والزيتون والرمان } بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين . قال الفراء : أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف . واعلم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه ، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولاسيما للعرب . ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم » ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله . فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء ، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى ، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها . وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة . ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه ، وأما الرمان فحاله عجيبة جداً لأنه قشر وشحم وعجم وماء . والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة ، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه ، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفى بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيهاً على البواقي . وأما قوله { مشتبهاً وغير متشابه } ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس . الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية ، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة ، ومنهم من يقول : الأشجار متشابهة والثمار مختلفة . ومنهم من قال : بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة ، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال : اشتبه الشيئان وتشابها كقولك : استويا وتساويا . وإنما قال { مشتبهاً } ولم يقل «مشتبهين » إما اكتفاء بوصف أحدهما ، أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله :

رماني بأمر كنت ووالدي *** بريئا ومن أجل الطويّ رماني

{ انظروا إلى ثمره } من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل : بقر وبقرة ، وشجر وشجرة . ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضاً مثل : خشبة وخشب . قال تعالى

{ كأنهم خشب مسندة } [ المنافقون : 4 ] أو على أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر { إذا أثمر } إذا أخرج ثمره { وينعه } يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت . أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة ، وربما كات أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضيئلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به ، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل ، ولهذا ختم الآية بقوله { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } قال القاضي : المراد لمن يطلب بالإيمان بالله لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن ، ويحتمل أن يقال : خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، أو المراد أن هذه الدلالة على قوّتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به البتة ويكون من زمرة من قال في حقهم .

/خ100