الأولى - قوله تعالى : " وهو الذي أنزل من السماء ماء " أي المطر . " فأخرجنا به نبات كل شيء " أي كل صنف من النبات . وقيل : رزق كل حيوان . " فأخرجنا منه خضرا " قال الأخفش : أي أخضر ، كما تقول العرب : أرنيها نمرة أركها{[6588]} مطرة . والخضر{[6589]} رطب البقول . وقال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت{[6590]} والذرة والأرز وسائر الحبوب . " نخرج منه حبا متراكبا " أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة .
الثانية - قوله تعالى : " ومن النخل من طلعها قنوان دانية " ابتداء وخبر . وأجاز الفراء في غير القرآن " قنوانا دانية " على العطف على ما قبله . قال سيبويه : ومن العرب من يقول : قنوان . قال الفراء : هذه لغة قيس ، وأهل الحجاز يقولون : قنوان ، وتميم يقولون : قنيان ، ثم يجتمعون في الواحد فيقولون : قنو وقنو . والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض . والإغريض يسمى طلعا أيضا . والطلع : ما يرى من عذق النخلة . والقنوان : جمع قنو ، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان ( بكسر النون ) . وجاء الجمع على لفظ الاثنين . قال الجوهري وغيره : الاثنان صنوان والجمع صنوان ( برفع النون ) . والقنو : العذق والجمع القنوان والأقناء . قال :
طويلة الأقْنَاء والأثَاكِل{[6591]}
غيره : " أقناء " جمع القلة . قال المهدوي : قرأ ابن هرمز " قنوان " بفتح القاف ، وروي عنه ضمها . فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر ، بمنزلة ركب عند سيبويه ، وبمنزلة الباقر والجامل ؛ لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع ، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق ( بكسر العين ) وهي الكباسة ، وهي عنقود النخلة . والعذق ( بفتح العين ) النخلة نفسها . وقيل : القنوان الجمار . " دانية " قريبة ، ينالها القائم والقاعد . عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما . وقال الزجاج : منها دانية ومنها بعيدة ، فحذف . ومثله " سرابيل تقيكم الحر{[6592]} " [ النحل : 81 ] . وخص الدانية بالذكر ، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة ، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر .
الثالثة - قوله تعالى : " وجنات من أعناب " أي وأخرجنا جنات . وقرأ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى والأعمش ، وهو الصحيح من قراءة عاصم " وجنات " بالرفع . وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم ، حتى قال أبو حاتم : هي محال ؛ لأن الجنات لا تكون من النخل . قال النحاس : والقراءة جائزة ، وليس التأويل على هذا ، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف ، أي ولهم جنات . كما قرأ جماعة من القراء " وحور عين{[6593]} " [ الواقعة : 22 ] . وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ، ومثله كثير . وعلى هذا أيضا " وحورا عينا " حكاه سيبويه ، وأنشد :
جئني بمثل بني بدر لقومهم *** أو مثل أُسْرَةِ منظورِ بنِ سيار{[6594]}
وقيل : التقدير " وجنات من أعناب " أخرجناها ، كقولك : أكرمت عبدالله وأخوه ، أي وأخوه أكرمت أيضا . فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك . وقيل : " وجنات " بالرفع عطف على " قنوان " لفظا ، وإن لم تكن في المعنى من جنسها . " والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه " أي متشابها في الأوراق ، أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال على جميع الغصن وفي حجم الورق ، وغير متشابه في الذواق ، عن قتادة وغيره . قال ابن جريج : " متشابها " في النظر " وغير متشابه " في الطعم ، مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما مختلف . وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم . وهو كقوله : " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " {[6595]} [ الغاشية : 17 ] . ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه .
الرابعة - قوله تعالى : " انظروا إلى ثمره إذا أثمر " أي نظر الاعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكر . والثمر في اللغة جنى الشجر . وقرأ حمزة والكسائي " ثمره " بضم الثاء والميم . والباقون بالفتح فيهما جمع ثمرة ، مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر . قال مجاهد : الثمر أصناف المال ، والتمر ثمر النخل . وكأن المعنى على قول مجاهد : انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه الثمر ، فالثمر بضمتين جمع ثمار وهو المال المثمر . وروي عن الأعمش{[6596]} " ثمره " بضم الثاء وسكون الميم ، حذفت الضمة لثقلها طلبا للخفة . ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة مثل بدنة وبدن . ويجوز أن يكون ثمر جمع جمع ، فتقول : ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر . ويجوز أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب لا جمع الجمع .
الخامسة - قوله تعالى : " وينعه " قرأ محمد بن السميقع " ويانعه " {[6597]} . وابن محيصن وابن أبي إسحاق " وينعه " بضم الياء . قال الفراء : هي لغة بعض أهل نجد ، يقال : ينع الثمر يينع ، والثمر يانع . وأينع يونع والتمر مونع{[6598]} . والمعنى : ونضجه . ينع وأينع إذا نضج وأدرك . قال الحجاج في خطبته : أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها . قال ابن الأنباري : الينع جمع يانع ، كراكب وركب ، وتاجر وتجر ، وهو المدرك البالغ . وقال الفراء : أينع أكثر من ينع ، ومعناه أحمر ، ومنه ما روي في حديث الملاعنة ( إن ولدته أحمر مثل الينعة ) وهي خرزة حمراء ، يقال : إنه العقيق أو نوع منه . فدلت الآية لمن تدبر ونظر ببصره وقلبه ، نظر من تفكر ، أن المتغيرات لا بد لها من مغير ، وذلك أنه تعالى قال : " انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه " . فتراه أولا طلعا ثم إغريضا إذا انشق عنه الطلع . والإغريض يسمى ضَحْكا أيضا ، ثم بلحا ، ثم سيابا ، ثم جدالا إذ اخضر واستدار قبل أن يشتد ، ثم بسرا إذا عظم ، ثم زهوا إذا أحمر ، يقال : أزهى يزهي ، ثم موكتا إذا بدت فيه نقط من الإرطاب . فإن كان ذلك من قبل الذنب فهي مذنبة ، وهو التذنوب ، فإذا لانت فهي ثعدة ، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهي مجزعة ، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة ، فإذا عمها الإرطاب فهي منسبتة ، يقال : رطب منسبت ، ثم ييبس فيصير تمرا . فنبه الله تعالى بانتقالها من حال إلى حال وتغيرها ووجودها بعد أن لم تكن بعد على وحدانيته وكمال قدرته ، وأن لها صانعا قادرا عالما . ودل على جواز البعث ؛ لإيجاد النبات بعد الجفاف . قال الجوهري : ينع الثمر يينع ويينع ينعا وينوعا ، أي نضج .
السادسة - قال ابن العربي قال مالك : الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش . قال : مالك : والنقش أن ينقش أهل البصرة الثمر حتى يرطب ، يريد يثقب فيه بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجلا . فليس ذلك الينع المراد في القرآن ، ولا هو الذي ربط به رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع{[6599]} ، وإنما هو{[6600]} ما يكون من ذاته بغير محاولة . وفي بعض بلاد التين ، وهي البلاد الباردة ، لا ينضج حتى يدخل في فمه عود قد دهن زيتا ، فإذا طاب حل بيعه ؛ لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد ، ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب .
قلت : وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة ، هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة . ذكر المعلى بن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد ) . والثريا النجم ، لا خلاف في ذلك . وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار ، وهو شهر مايو . وفي البخاري : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر .
السابعة - وقد استدل من أسقط{[6601]} الجوائح في الثمار بهذه الآثار ، وما كان مثلها من نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، وعن بيع الثمار حتى تذهب العاهة . قال عثمان بن سراقة : فسألت ابن عمر متى هذا ؟ فقال : طلوع الثريا . قال الشافعي : لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ، ولو ثبت عندي لم أعده ، والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه ، قال : ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لو ضعتها في القليل والكثير . وهو قول الثوري والكوفيين . وذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى وضعها ؛ لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح . أخرجه مسلم . وبه كان يقضي عمر بن عبدالعزيز ، وهو قول أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث . وأهل الظاهر وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير على عموم الحديث ، إلا أن مالكا وأصحابه اعتبروا أن تبلغ الجائحة ثلث الثمرة فصاعدا ، وما كان دون الثلث ألغوه وجعلوه تبعا ، إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها وأن يلحقها في اليسير منها فساد . وكان أصبغ وأشهب لا ينظران إلى الثمرة ولكن إلى القيمة ، فإذا كانت القيمة الثلث فصاعدا وضع عنه . والجائحة ما لا يمكن دفعه عند ابن القاسم . وعليه فلا تكون السرقة جائحة ، وكذا في كتاب محمد . وفي الكتاب أنه جائحة ، وروي عن ابن القاسم ، وخالفه أصحابه والناس . وقال مطرف وابن الماجشون : ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد ، أو عطش أو حر أو كسر الشجر بما ليس بصنع آدمي فهو جائحة . واختلف في العطش{[6602]} ؛ ففي رواية ابن القاسم هو جائحة . والصحيح في البقول أنها فيها جائحة{[6603]} كالثمرة . ومن باع ثمرا قبل بدو صلاحه بشرط التبقية فسخ بيعه ورد ؛ للنهي عنه ؛ ولأنه من أكل المال بالباطل ؛ لقوله عليه السلام : ( أرأيت إن منع الله الثمرة فبم أخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ) ؟ هذا قول الجمهور ، وصححه أبو حنيفة وأصحابه وحملوا النهي على الكراهة . وذهب الجمهور إلى جواز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع . ومنعه الثوري وابن أبي ليلى تمسكا بالنهي الوارد في ذلك . وخصصه الجمهور بالقياس الجلي ؛ لأنه مبيع معلوم يصح قبضه حالة العقد فصح بيعه كسائر المبيعات .