وهذا نَوْعٌ خَامِسٌ من الدَّلائِل على كمال قُدْرَتِهِ تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وإحسانه إلى خَلقِهِ .
قوله : " فَأخْرَجْنَا " فيه التِفَاتٌ من غيبة إلى تَكَلُّم بنون العظمة والباء في " به " للسَّببية .
وقوله : { نَبَات كُلِّ شَيْءٍ } قيل : المراد كُلّ ما يسمّى نباتاً في اللغة .
قال الفراء{[14674]} : " رزق كل شيء ، أي : ما يصلح أن يكون غِذَاءً لكل شَيءٍ ، فيكون مَخْصُوصاً بالمتغذى به " .
وقال الطَّبري{[14675]} : " هو جميع ما يَنْمُوا من الحيوان والنبات والمعادن ؛ لأن كل ذلك يَتَغَذَّى بالماء " .
ويترتب على ذلك صِنَاعَةٌ إعرابية وذلك أنَّا إذا قُلْنَا بقول غير الفراء كانت الإضافة رَاجِعَةٌ في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها ، إذ يصير المعنى على ذلك : فَأخْرَجْنَا به كُلَّ شيء مُنْبَتٍ ، فإن النبات بمعنى المُنْبَتِ ، وليس مصدراً كهو في
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نباتاً } [ نوح :17 ] وإذا قلنا بقول الفراء : كانت الإضافة إضافة بين مُتباينين ؛ إذ يصير المعنى غذاء كل شيء أو رزقه ، ولم ينقل أبو حيان عن الفراء غير هذا القول والفرَّاء له في هذه الآية القَولانِ المُتقدِّمان ، فإنه قال : " رزق كل شيء " قال : وكذا جاء في التفسير ، وهو وَجْهُ الكلام ، وقد يجوز في العربية أن تضيف النبات إلى كُلّ شيء ، وأنت تريد بكُلِّ شيء النَّبَات أيضاً ، فيكون مثل قوله : " حَقّ اليَقينِ واليقين هو الحق " .
هذه الآية تقتضي نُزُولَ المَطَرِ من السماء .
قال الجُبَّائِيُّ{[14676]} : إن الله -تبارك وتعالى- ينزل الماء من السَّماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض لظاهر النَّصِّ قال بعض الفَلاسِفَةِ{[14677]} : إن البُخَارَاتِ الكثيرة تجتمع في بَاطِنِ الأرض ، ثم تَصْعَدُ ، وترتفع إلى الهواء ، فينعقد الغَيْمُ منها ، ويَتَقَاطَرُ ، وذلك هو المَطَرُ ، فقيل : المراد أنزل من جانب السماء ماءً .
وقيل : ينزل من السحاب ، وسمي السحاب سماء ؛ لأن العربَ تُسَمِّي كل ما فَوْقَكَ سماء كسماءِ البيت .
ونقل الواحديُّ{[14678]} في " البسيط " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يريد بالماء هاهُنَا المَطَرَ ، ولا تنزل نقطة من الماء إلا ومعها مَلَكٌ{[14679]} .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } يَدُلُّ على أنَّ إخْراجَ النَّباتِ بواسطة الماء ، وذلك يوجب القَوْلَ بالطَّبع ، والمتكلمون ينكرونه .
قال الفراء : هذا الكلام يَدُلُّ على أنه أخرج به نبات كل شيء ، وليس الأمر كذلك ، وكأن المراد : فأخرجنا [ به نبات كل شيء له نبات ، وإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه وقوله : " فأخرجنا " ]{[14680]} بعد قوله : " أنزل " فيه الْتِفَاتٌ ، وهو من الفَصَاحةِ مذكور في قوله تبارك وتعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس :22 ] .
وقوله تبارك وتعالى : " فأخْرَجْنَا " هذه النون تسمى نون العَظَمَةِ لا نون الجمع كقوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً } [ نوح :1 ] { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } [ الحجر :9 ] { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر :1 ] .
قوله : " فَأخْرَجْنَا مِنْهُ " في الهاء وجهان :
أحدهما : أن يعود على النَّبَاتِ ، وهو الظاهر ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وتكون " من " على بابها من كونها لابتداء الغاية ، أو تكون " من " للتبعيض ، وليس كذلك .
والثاني : يَعودُ على الماء ، وتكون " من " سَبَبِيَّةً .
وذكر أبو البقاء{[14681]} - رحمه الله تعالى - الوَجْهَيْنِ ، فقال : " فَأخْرَجْنَا مِنْهُ " أي : بسببه ، ويجوز أن تكون الهاء في " منه " راجعةً على النبات ، وهو الأشبه ، وعلى الأول يكون " فأخْرَجْنَا " بدلاً من " أخْرَجْنَا " الأول أي : أنه يكتفى في المعنى بالإخبار بهذه الجملة الثانية ، وإلا فالبدلُ الصناعي لا يظهر ، فالظاهر أن " فأخرجنا " عطف على " فأخرجنا " الأول .
وقال أبو حيان{[14682]} : وأجاز أبو البقاء{[14683]} - رحمه الله تعالى - أن يكون بدلاً من " فأخرجنا " .
قلت : إنما جعله بَدَلاً بِنَاءً على عَوْدِ الضمير في " منه " على الماء فلا يَصِحُّ أن يحكى عنه أنه جَعَلَهُ بدلاً مطلقاً ؛ لأن البدليَّة لا تتصَوَّرُ على جعل الهاء في " منه " عائدةً على النبات ، والخَضِرُ بمعنى الأخْضَر ك " عَوِر " و " أعور " .
قال أبو إسحاق{[14684]} : يقال : أخضر يخضر فهو خضر وأخضر ك " أعور " فهو عَوِر وأعور .
والخُضْرَة أحد الألوان ، وهو بين البياض والسواد ولكنها إلى السَّوادِ أقرب ، وكذلك أطْلِقَ الأسود على الأخضر ، وبالعكس ، ومنه " سواد العراق " لِخُضْرَةِ أرضه بالشجر ، وقال تبارك وتعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمان :64 ] أي : شَديدتَا السواد لريِّهِمَا ، والمُخاضَرَةُ مُبايَعَةُ الخُضَرِ والثمار قبل بلوغها ، والخضيرة : نخلة ينتثر بُسْرُهَا أخضر .
وقوله عليه الصلاة والسلام : " إيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ " فقد فَسَّرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " المَرْأةُ الحَسْنَاءُ في المَنْبَتِ السُّوءِ " {[14685]} والدِّمنُ : مَطَارحُ الزِّبَالَةِ ، وما يُسْتَقْذَرُ ، فقد يَنْبُت منها ما يَسْتَحْسِنُهُ الرائي .
قال اللَّيْثُ : الخضر في كتاب الله الزَّرْعُ والكلأ ، وكل نبت من الخضر .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز ، والمراد بهذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أوّلاً ، وتكون السُّنْبُلَةُ مركبةً عليه من فوقه{[14686]}
قوله : " نُخْرِجُ مِنْهُ " أي : من الخضر .
والجمهور{[14687]} على " نخرج " مُسْنَداً إلى ضمير المعظم نفسه .
وقرأ ابن محيصن{[14688]} والأعمش : " يخرج " بياء الغيبة مبنياً للمفعول و " حَبٌّ " قائم مقام فاعله ، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفةً ل " خَضِراً " وهذا هو الظاهر ، وجوّزوا فيها أن تكون مُسْتَأنَفَةً ، و " متراكب " رفعاً ونصباً صفة ل " حب " بالاعتبارين ، والمعنى أن تكون الحبَّات متراكبةً بعضها فوق بعض ، مثل [ سَنَابِلِ ]{[14689]} البُرِّ والشعير والأرز ، وسائر الحبوب ، ويحصل فوق السُّنْبُلَةِ أجسام دقيقة حادة كأنها الإبَرُ ، والمقصود [ من تخليقها مَنْعُ الطير من التِقَاطِ تلك الحبَّاتِ المتراكبة .
قوله : { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } يجوز في هذه الجملة أوجه : ]{[14690]}
أحسنها : أن يكون " من النخل " خبراً مقدماً ، و " من طلعها " بدل بعض من كل بإعادة العامل ، فهو كقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } [ الأحزاب :21 ] .
و " قِنْوَانٌ " مبتدأ مؤخر ، وهذه الجملة ابتدائية عطفت على الفعلية قبلها .
الثاني : أن يكون " قِنْوان " فاعلاً بالجار قبله ، وهو " من النخل " و " من طلعها " على ما تقدَّم من البدليَّة ، وذلك على رأي الأخفش .
الثالث : أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُعِ ، يعني أن كلاًّ من الجارَّيْنِ يطلب " قنوان " على أنه فاعل على رأي الأخفش ، فإن أعملت الثاني ، وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأوَّل ، وإن أعملت الأوَّل كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني .
قال أبو البقاءِ{[14691]} : والوجه الآخر أن يرتفع " قنوان " على أنه فاعل " من طلعها " فيكون في " من النخل " ضمير يفسره " قنوان " وإن رفعت [ " قنوان " ]{[14692]} بقوله : " ومن النخل " على قول من أعمل أول الفعلين جاز ، وكان في " من طلعها " ضمير مرفوع قلت : فقد أشار بقوله : على أنه فاعل " من طلعها " إلى إعمال الثاني .
الرابع : أن يكون " قنوان " مبتدأ ، و " من طلعها " الخبر ، وفي " من النخل " ضمير ، تقديره ونبت من النخل شيء أو ثمر ، فيكون " من طلعها " بدلاً منه . قاله أبو{[14693]} البقاء رحمه الله ، وهذا كلام لا يصح ؛ لأنه بعد أن جعل " من طلعها " الخبر ، فكيف يجعله بدلاً ؟ فإن قيل : يجعله بدلاً منه ؛ لأن " من النخل " خبر للمبتدأ .
فالجواب : أنه قد تقدَّم هذا الوجه ، وجعله مقابلاً لهذا ، فلا بد أن يكون هذا غيره ، فإنه قال قبل ذلك : وفي رفعه وجهان :
أحدهما : هو مبتدأ ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : هو " من النخل " ، و " من طلعها " بدل بإعادة الجار .
قال أبو حيان{[14694]} : وهذا إعراب فيه تخليط .
الخامس : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة " أخرجنا " عليه ، تقديره : ومخرجه من طلع النخل " قنوان " . هذا نص الزمخشري{[14695]} ، وهو كما قال أبو حيان{[14696]} لا حاجة إليه ؛ لأن الجملة مُسْتَقِلَّةٌ في الإخبار بدونه .
السادس : أن يكون " من النخل " متعلقاً بفعل مقدر ، ويكون " من طلعها قنوان " جملة ابتدائية في موضع المفعول ب " نخرج " وإليه ذهب ابن عطية{[14697]} ، فإنه قال : " ومن النخل " تقديره : " نخرج من النخل " ، و " من طلعها قنوان " ابتداء خبر مقدم ، والجملة موضع المفعول ب " نخرج " .
قال الشيخ{[14698]} : وهذا خطأ ؛ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق ، وكان في الجملة مَانِعٌ يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شرح في النحو ، و " نخرج " ليس مما يعلّق ، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها ؛ إذ لو سُلِّطَ الفعل على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب : ويخرج من النخل من طلعها قنوان [ بالنصب مفعولاً به .
وقال أبو حيَّان{[14699]} : ومن قرأ " يخرج منه حبّ متراكب " جاز أن يكون قوله " ومن النخل من طلعها قنوان " ]{[14700]} معطوفاً عليه نحو : ضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو أي : إنه يعطف " قنوان " على حب " ومن النخل " على " منه " ، ثم قال : " وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه " .
والقنوان جمع ل " قِنْو " ، كالصِّنْوَان جمع ل " صِنُو " والقِنْو : العِذْق بكسر العين وهو عُنْقُودُ النخلة ، ويقال له : الكِبَاسَةُ .
وَفَرْع يُغَشِّي المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ *** أثِيثٍ كَقِنُوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ{[14701]}
سَوَامِقُ جَبَّارٍ أثِيثٍ فُرُوُعُهُ *** وعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا{[14702]}
قال أبو علي : الكسرة التي في قنوان ليست التي في " قِنْو " ؛ لأن تلك حذفت في التكسير ، وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّرَ تَغَيُّرُ كسرة " هِجَان " جمعاً عن كَسْرته مفرداً ، فكسرة " هجان " جمعاً ككسرة " ظِرَاف " .
قال الواحدي - رحمه الله - : وهذا مما تُوَضِّحُهُ الضمة في آخر " منصُور " على قول من قال " يا حارُ " يعني بالضمة ليست التي كانت فيه في قول من قال : " يا حَار " يعني بالكسر .
فَلُغَةُ " الحجاز " : " قِنْوان " بكسر القاف ، وهي قراءة{[14703]} الجمهور وقرأ الأعمش ، والحباب{[14704]} عن أبي عمرو - رضي الله عنه - ، والأعرج بضمها ، ورواها السلمي عن علي بن أبي طَلْحَةَ ، وهي لغة " قَيْس " .
ونقل{[14705]} ابن عطية عكس هذا ، فجعل الضم لغة " الحجاز " ، فإنه قال : " وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع " قُنْو " بضم القاف " .
قال الفراء : " وهي لغة " قيس " ، وأهل " الحجاز " ، والكسر أشهر في العرب " .
واللغة الثالثة " قَنْوَان " بفتح القاف ، وهي قراءة أبي عمرو - رحمه الله تعالى - في رواية هارون عنه ، وخرَّجها ابن{[14706]} جني على أنها اسم جمع " قنو " لا جمعاً ؛ إذ ليس في صِيَغِ الجموع ما هو على وَزْن " فَعْلان " بفتح الفاء ، ونظَّره الزمخشري{[14707]} ب " رَكْب " ، وأبو البقاء{[14708]} - رحمه الله ب " الباقر " ، وتنظير أبي البقاء أوْلَى ؛ لأنه لا خلاف في " الباقر " أنه اسم جمع ، وأما " رَكْب " فيه خلاف لأبي الحسن مشهور ، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سمع في المفرد كسر القاف ، وضمها ، فجاء الجمع عليهما ، وأما الفتح فلم يَرِدْ في المفرد .
واللغة الرابعة " قنيان " بضم القاف مع الياء دون الواو .
والخامسة : " قِنْيان " بكسر القاف مع الياء أيضاً ، وهاتان لغتا " تميم " و " ربيعة " .
وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً ، بل بالواو ، سواء كسروا القاف أم ضموها ، فلا يقولون إلا قِنْواً وقُنْواً ، ولا يقولون : قِنْياً ولا قُنْياً ، فخالف الجمع مفرده في المادة ، وهو غريب ، واختلف في مدلول " القِنْو " ؛ فقيل : هو الجُمَّار ، وهذا يكاد يكون غَلَطاً ، وكيف يوصف بكونه دانياً ؛ أي : قريب الجَنَى والجُمَّارُ إنما هو في قَلْبِ النخلة ؟ والمشهور أنه العِذْقُ كا تقدم ذلك .
وقال ابن عباس : يريد العراجينَ الَّتي قد تدلّت من الطلع دَانِيَةً ممن يَجْتَنيها{[14709]} .
وروي عنه أنه قال قصار النخل اللاصقة عُذُوقها بالأرض{[14710]} .
قال الزجاج{[14711]} ولم يقل : ومنها قنوان بعيدة ؛ لأن ذِكْرَ أحد القسمين يَدُلُّ على الثاني ، لقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل :81 ] ، ولم يقل : سرابيل تقيكم البرد .
وقيل أيضاً : ذكر الدانية القريبة ، وترك البعيدة ؛ لأن النعمة{[14712]} في القريبة أكثر .
قال أبو عبيد : " وإذَا ثَنَّيْتَ " قِنْواً " قلت : قِنْوانِ بكسر النون ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل : صِنْو وصِنْوَان ، والإعراب على النون في الجمع [ وليس لهما في كلام العرب نظير ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ومال بِقِنوانٍ البُسْرِ أحْمَرَا{[14713]}
قال شهاب الدين{[14714]} : إذا وقف على " قنوان " المُثَنّى رفعاً ، وعلى " قنوان " جمعاً وقع الاشتراك اللفظي ، ألا ترى أنك إذا قلت " عندي قنوان " وقفاً احتمل ما ذكرته في التثنية والجمع ، وإذا وصلت وقع الفرق ، فإنك تجعل الإعراب على النون حال جمعه كغِرْبَان وصردان ، وتكسر النون في التثنية ، ويقع الفرق أيضاً بوجوه أخر :
منها انقلاب الألف ياء نصباً وجراً في التثنية نحو رأيت قِنْويك وصنويْكَ ، ومررت بِقنويْك وصِنْوَيْك .
ومنها : حذف نون التثنية إضافة وثبوت النون في الجمع ]{[14715]} .
نحو : جاء قنواك وصنواك [ وقنوانك وصنوانك ]{[14716]} ومنها في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية ، فتقول : قنوي وصنوي ، ولا تحذف الألف والنون إذا أردت الجمع بل تقول : قنواني وصنواني ، وهذان اللفظان في الجمع تكسيراً يشبهان الجمع تصحيحاً ، وذلك أن كُلاًّ منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ، ولم يتغير معهما بناء الواحد ، والفرق ما تقدم .
وأيضاً فإن الجمع من قِنْوان وصِنْوَان إنما فهمناه من صيغة فعلان ، لا من الزيادتين ، بخلاف " الزيدين " فإن الجمع فهمناه منهما ، وهذا الفصل الذي ذكرته من محاسن علم الإعراب والتصريف واللغة .
وقال الراغب{[14717]} : بعد أن ذكر أنه العِذق : والقناة تُشْبِهُ القِنْوَ في كونهما غُصْنَيْنِ ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك ؛ لأنها تشبه القناة في الخطِّ والامتداد .
وقيل : أصلة من قَنَيْتُ الشيء إذا ادّخرته ؛ لأنها مُدَّخرة للماء .
وقيل : هو من قَانَاهُ أي : خالطه .
كبِكْرِ مُقَانَاةِ البيَاضِ بِصُفْرَةٍ *** غَذَاهَا نُمَيْرُ المَاءِ غَيْرَ مَحَلِّلِ{[14718]}
وأمَّا " القَنَا " الذي هو الاحْدِيدابُ في الأنْفِ فَيُشَبَّهُ في الهيئة بالقنا يقال : رجل أقْنَى ، وأمرأةٌ قَنْوَاء ، كأحْمَر وحمراء .
والطَّلْعُ : أوَّل ما يخرج من النَّخْلة في أكْمامِهِ .
قال أبو عبيد : الطَّلْعُ : الكُفُرَّى قبل أن تَنْشَقَّ عن الإغريض والإغْريضُ يسمى طلعاً يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها تطلع إطلاعاً وطلع الطلع يطلع طلوعاً ؛ ففرقوا بين الإسنادين ، وأنشد بعضهم في مراتب ما تثمره النخل قول الشاعر : [ الرجز ]
إنْ شِئْتَ أنْ تَضْبِطَ يَا خَلِيلُ *** أسْمَاء مَا تُثْمِرُهُ النَّخِيل
فَاسْمَعْهُ مَوْصُوفاً عَلَى مَا أذْكُرُ *** طَلْعٌ وبَعْدَهُ خلالٌ يَظْهَرُ
وبَلَحٌ ثُمَّ يَلِيهِ بُسْرُ *** ورُطَبٌ تَجْنِيهِ ثُمَّ تَمْرُ
فَهَذِهِ أنْواعُهَا يَا صِاحِ *** مَضْبُوطَةً عَنْ صَاحِبِ الصِّحَاحِ{[14719]}
قوله : " وجَنَّاتٍ " الجمهور على كَسْرِ التاء{[14720]} من " جنات " ؛ لأنها مَنْصُوبة نَسَقاً على " نبات " أي : فأخرجنا بالماء النبات وجنات ، وهو من عَطْفِ الخاصِّ على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة :98 ] وعلى هذا فقوله : { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } جملة معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للْمِنَّةِ به لأنه من أعظم قُوتِ العرب ، ولأنه جامع بين التَّفَكُّهِ والقوت .
ويجوز أن ينتصب " جنات " نسقاً على " خَضِراً " ، وجوز الزمخشري{[14721]} - وجعلهُ الأحسن - أن ينتصب على الاختِصَاصِ ، كقوله : { وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ } [ الحج :35 ] .
قال : " لفضل هذين الصِّنفين " وكلامه يفهم أن القراءة الشهيرة عنده رفع " جَنَّات " والقراءة بنصبهما شاذَّة ، فإنه أوَّل ما ذكر توجيه الرَّفْع كما سيأتي ، ثم قال : وقرئ{[14722]} " وجنات " بالنصب ، فذكر الوجهين المتقدمين .
وقرأ الأعمش ، ومحمد{[14723]} بن أبي ليلى ، وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم " وجنات " بالرفع وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها مرفوعة بالابتداء ، والخبر محذوف ، واختلفت عبارة المعربين في تقديره فمنهم من قدَّرهُ متأخراً ومنهم من قدَّرَهُ متقدماً ؛ فقدَّره الزمخشري{[14724]} متقدماً أي : وثمَّ جنات ، وقدره أبو البقاء : ومن الكَرْمِ جنَّاتٌ ، وهذا تقدير حسن لِمُقابلةِ قوله : " ومِنَ النَّخْل " أي : من النخل كذا ، ومن الكرم كذا ، وقدَّرهُ{[14725]} النَّحَّاسُ " ولَهُمْ جنَّاتٌ " ، وقدره ابن عطية{[14726]} : " ولكن جنَّات " .
ونظيره قوله في قراءته { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة :22 ] بعد قوله :
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ } [ الواقعة :17 ، 18 ] أي : ولهم حُورٌ عين ، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويه ، والكسائي ، والفراء .
وقدره الزمخشري{[14727]} ، وأبو حيان متأخراً ؛ فقال : أي : وجنات من أعناب أخْرجناها قال الشيخ : ودلَّ على تقديره قوله قبل : " فأخْرَجْنَا " كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه ، أي : وأخوه أكرمته .
قال شهاب الدين{[14728]} : وهذا التَّقديرُ سَبَقَهُ إليه ابن الأنْبَارِيّ ، فإنه قال : " الجنَّات " رفعت بمضمر بعدها تأويلها : وجنات من أعناب أخرجناها ، فجرى مجرى قول العرب " أكرمت عبد الله وأخوه " تريد وأخوه أكرمته .
غَدَاةَ أحَلَّتْ لابْنِ أصْرَمَ طَعْنَةٌ *** حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السِّدائِفِ والخَمْرُ{[14729]}
فرفع " الخمر " وهي مفعولة على معنى : والخمر أحَلَّها الطَّعْنَة .
والوجه الثاني : أن يرتفع عَطْفاً على " قِنْوان " تغليباً للجوار ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا{[14730]}
فنسق " العيون " على " الحواجب " تَغْلِيباً للمُجَاورةِ ، والعيون لا تُزَجَّج كما أن الجنَّاتِ من الأعناب لا يَكُنَّ من الطَّلْع ، هذا نص مذهب ابن الأنباري أيضاً ، فَتَحَصَّلَ له في الآية الكريمة مذهبان ، وفي الجملة فَالجواب ضَعيفٌ وقد تقدَّم أنه من خَصَائِصِ النَّعْتِ .
والثالث : أن يُعطف على " قنوان " .
قال الزمخشري{[14731]} : على معنى مُحَاطَة أو مخرجه من النخل قنوان ، وجنات من أعناب أي من نبات أعناب .
قال أبو حيان{[14732]} رحمه الله تعالى : وهذا العَطْفُ على ألاَّ يلحظ فيه قَيْدٌ من النخل ، فكأنه قال : ومن النخل قِنْوانٌ دانية ، وجنات من أعناب حَاصِلة ، كما تقول : " من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش مُنْطَلِقان " .
قال شهاب الدين{[14733]} رحمه الله : وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوَجْهَ أعني عَطْفَهَا على " قنوان " ، وضعَّفَهُ ابن عطية{[14734]} ، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه ، ومنع أبو البقاء{[14735]} عطفه على " قنوان " ، قال : " لأن العِنبَ لا يخرج من النخل " .
وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة قال أبو حاتم : " هذه القرءاة محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل " .
قال شهاب الدين{[14736]} : أما جواب أبي البقاء فبما قاله الزمخشري .
وأما جواب أبي عبيد وأبي حاتم فبما تقدَّم من تَوْجِيهِ الرفع ، و " من أعناب " صفة ل " جنات " فتكون في محلِّ رفع ونصب بحسب القراءتين ، وتتعلق بمحذوف .
قوله : " والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ " لم يقرأهما أحد إلاَّ مَنْصُوبَيْنِ ، ونصبهما : إما عطف على " جنات " ، وإما على " نبات " وهذا ظاهر قول الزمخشري{[14737]} ، فإنه قال : وقرئ " وجنات " بالنصب عطفاً على " نبات كل شيء " أي : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : " والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ " .
ونص أبو البقاء{[14738]} على ذلك فقال : " وجنات " بالنصب عَطْفاً على " نبات " ومثله " الزيتون والرمان " .
وقال ابن عطية{[14739]} : عطفاً على " حبًّا " وقيل على " نبات " وقد تقدم أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين :
والثاني : عطفه على الأوَّل نحوه مررت بزيد وعمرو وخالد ، فخالد يحتمل عطفه على زيد وعمرو ، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو : " مررت بك وبزيد وبعمرو " ، فإن جعلتهُ عطفاً على الأول لزمت الباء ، وإلاَّ جَازتْ .
و " الزَّيْتُون " وزنه " فَيْعُول " فالياء مزيدة ، والنون أصْلِيَّة لسقوط تلك في الاشتقاق ، وثبوت ذي ، قالوا : أرض زتنَةٌ ، أي : كثيرة الزيتون ، فهو نظير قَيْصُوم ، لأن فَعْلُولاً مفقود ، أو نادرٌ ولا يتوهم أن تَاءَهُ أصلية ونونه مزيدة لدلالة الزَّيْتِ ، فإنهما مادَّتانِ مُتغايرتان ، وإن كان الزيت مُعْتصراً منه ، ويقال : زاتَ طعامه ، أي : جعل في زَيْتاً ، وزاتَ رَأسَهُ أي : دَهَنَهُ به ، وازْدَاتَ : أي ادَّهَنَ أبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازْدَجَرَ وازْدَانَ .
و " الرُّمَّان " وزنه فُعَّال نونه أصلية ، فهو نظير : عُنَّاب وحُمَّاض ، لقولهم : أرض رَمِنَهُ أي : كثيرَتُهُ .
قال الفراء : قوله تعالى : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } يريد شجر الزيتون ، وشجر الرمان ؛ كقوله تعالى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف :82 ] يريد أهْلَهَا .
فصل في معنى تقدم النخل على الفواكه في الآية
ذكر تبارك وتعالى هاهنا أربعة أنواع من الأشْجَارِ : النخل والعنب والزيتون والرمان ، وقدَّم الزرع على الشَّجرِ ؛ لأن الزَّرْعَ غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مُقدَّمٌ ، وقدم النخل على الفواكه ؛ لأن الثمر يجري مُجْرَى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب .
قال الحكماء{[14740]} : بينه وبين الحيوان مُشابهةٌ في خواصَّ كثيرة لا توجد في النبات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " أكْرِمُوا النَّخْلَةَ فإنَّهَا عَمَّتُكُمْ فإنَّها خُلِقَتْ مِنْ طينَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ " {[14741]} .
وذكر العِنَب عقيبَ النخل ؛ لأن العنب أشْرَفُ أنواع الفواكه ؛ لأنه أول ما يظهر يصير مُنْتَفَعاً به إلى آخر الحال ، فأول ما يظهر على الشجر خُيُوطٌ خُضْرٌ رقيقة حَامِضَةُ الطعم لذيذَةٌ ، وقد يمكن اتِّخَادُ الصبائِغ منه ، ثم يظهر بعده الحُصْرُمُ ، وهو طعام شَريفٌ للأصحَّاءِ والمَرْضَى ، وقد يتخذون من الحصرم أشربة لطيفة المذاقِ نافعَةٌ لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، لأنه ألَذّ الطبائخ الحامضة ، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [ وأشهاها فيمكن ادِّخار العنب المعلق سنة أو أكثر وهو ألذ الفواكه ]{[14742]} المُدَّخرة ، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات : وهي الزَّبِيبُ والدبْسُ والخَمْرُ والخَلُّ ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا في مجلدات والخمر فإن كان الشَّرْعُ قد حَرَّمَهَا ، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ثم قال :
{ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة ، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه ، وأما الزَّيْتُونُ فهو أيضاً كثير النَّفْعِ كثير البركة ؛ لأنه يمكن تَنَاوُلُهُ كما هو ، وينفصل عنه أيضاً دهن كثير عظيم النفع في الأكل ، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب{[14743]} جداً ؛ لأنه جِسْمٌ مُرَكَّبٌ من أربعة أقسام : قشرة وشحمه وعجمه وماءه ، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم ، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عَفِصَةٌ قوية في هذه الصفات وأما ماءُ الرمان فبالضِّدِّ من هذه الصفات ، فإنه ألَذُّ الأشْرِبَةِ وألْطَفُهَا ، وأقربها{[14744]} إلى الاعتدال ، وأشَدُّهَا مناسبة للطَّبائِع المعتدلة فيه تقوية للمِزَاج الضعيف ، وهو غذاء من وَجْهٍ ، ودواء من وجه آخر ، فإذا تَأمَّلت في الرُّمَّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافةِ التامة الأرضية ، ووجدت القسم الرابع وهو مَاءُ الرُّمَّانِ في غاية اللَّطَافَةِ والاعتدال ، فكأنه تبَارك وتعالى جمع فيه بين المُتَضَادَّيْنِ المُتَغَايريْنِ ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم .
نَبَّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [ التي هي أشرف أنواع النبات ]{[14745]} على الباقي .
قوله : " مُشْتَبِهاً " حالٌ ؛ إما من " الرُّمَّان " لِقُرْبِهِ ، وحذفت الحال من الأول ؛ تقديره : والرمان مشتبهاً ، ومعنى التشابه أي في اللَّوْنِ ، وعدم التشابه أي في الطعم .
وقيل : هي حال من الأول ، وحذفت حال الثاني ، وهذا كما تقدَّم في الخبر المحذوف ، نحو : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }
[ التوبة :62 ] وإلى هذا نحا الزمخشري{[14746]} ، فإنه قال : تقديره : والزيتون مشتبهاً ، وغير مشتبه ، والرمان كذلك ؛ كقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي *** بَرِيئاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14747]}
أي : ولم يقل : مشتبهين اكتفى بوصف أحدهما أو على تقدير : " والزيتون مشتبهاً وغير متشابه ، والرُّمَّان كذلك " .
قال أبو حيان{[14748]} : " فعلى قوله يكون تقدير البيت : كنت منه بريئاً ، ووالدي كذلك ، أي : بريئاً ، والبيت لا يتَعيَّنُ فيه ما ذكره ؛ لأن " بريئاً " على وزن " فعيل " كصديق ورفيق ، فَصَحَّ أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع ، فيحتمل أن يكون " بريئاً " خبر " كان " على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه إذ لا يجوز أن يكون خبراً عنهما ، ولا يجوز أن يكون حالاً عنهما ، إذ لو كان كذلك لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين " .
وقال أبُو البقاءِ{[14749]} : حَالٌ من " الرمان " ومن الجميع ، فإن عَنَى في المعنى فصحيح ، ويكون على الحذف ، وكما تقدم فإن أراد بالصِّناعةِ ، فليس بشيء ؛ لأنه كأنه يلزم المطابقة .
والجمهور على " مشتبهاً " . وقرئ{[14750]} شاذاً " متشابهاً " وغير متشابه كالثانية ، وهما بمعنى واحِدٍ قال الزمخشري : " كقولك اشتبه الشيئان ، وتشابها كاسْتَوَيَا وتَساوَيَا والافتعال والتَّفَاعُل يشتركان كثيراً " . انتهى وقد جمع بينهما في هذه الآية الكريمة في قوله " مشتبهاً وغير متشابه " .
فصل في معنى " متشابه " في الآية
قال بعضهم : متشابه في اللون والشكل ، ومع أنها تكون مُتشابِهَةً في الطعم واللَّذَّةِ ، فإن الأعناب والرمان قد تكون مُتَشابِهَةً في الصورة واللون والشكل ، مع أنها تكون مختلفةً في الحلاوةِ والحُمُوضَةِ .
وقيل : إن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القِشْرِ والعجم متشابهة في الطعم والخَاصيَّة .
وقال قتادة : مشتبهاً وَرَقُهَا مختلفاً{[14751]} ثمرها ؛ لأن وَرَقَ الزيتون يشبه ورق الرمان .
وقيل : إنك إذا أخذت عنقود العنب وجدْت جميع حبَّاتِهِ نَاضِجةً حلوة طيبة إلاَّ حبَّاتٍ مخصوصة لم تدرك ، بل بقيت على أوَّل حالها في الحموضة والعُفُوصَةِ ، وعلى هذا فبعض حبَّات ذلك العنقود متشابه ، وبعضها غير متشابه .
قوله : " إلَى ثَمَرِهِ " متعلق ب " انظروا " وهو بمعنى الرُّؤية ، وإنما تَعَدَّتْ ب " إلى " لما تَتَضَمنَّهُ من التفكر .
وقرأ{[14752]} الأخوان " ثُمُرِهِ " بضمتين ، والباقون{[14753]} : بفتحتين .
وقرئ{[14754]} شاذاً بضم الأوّل ، وسكون الثاني .
وأما قراءة{[14755]} الأخوين فتحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون اسماً مفرداً ؛ كطُنُب وعُنُق .
والثاني : أنه جمع الجمع ، فَثُمر جمع : ثمار ، وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو : أكُم جمع إكَام ، وإكَام جمع أكَمَة ، فهو نظير كُثْبَان وكُثُب .
والثالث : أنه جمع " ثَمَر " كا قالوا : أسَد وأسُد .
قال الفارسي : " الأحْسَنُ أن يكون جمع ثَمَرَة ، كخَشَبَة وخُشُب ، وأكَمَة وأكُمُ ، ونظيره في المعتل : لابَةٌ ولُوبٌ ، وناقةٌ ونوقٌ ، وسَاحَةٌ وسُوحٌ " .
وأما قراءة{[14756]} الجماعة ، فالثَّمَر اسم جنس ، مفرده ثمرة ، كشجر وشجرة ، وبقر وبقرة ، وجَرَز وجَرَزَة .
وأما قراءة{[14757]} التسكين فيه تخفيف قراءة الأخوين وقيل : بل هي جمع " ثمرة " كبُدْن جمع " بَدَنة " ، ونقل بعضهم أنه يقال : ثمرة بزنة سمرة ، وقياسها على هذا ثَمُر كَسَمُر بحذف التاء إذا قصد جمعه ، وقياس تكسيره أثمار ، كعضد وأعْضَاد .
وقد قرأ{[14758]} عمرو الذي في سورة " الكهف " بالضم وسكون الميم ، فهذه القرءاة التي هنا فَصِيحَةٌ كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مُسْتَنَدُهَا النقل .
وقرا أبو عمرو{[14759]} والكسائي وقنبل " خُشْب " والباقون بالضم{[14760]} فهذه القراءة نظير تيك .
وهذا الخلاف أعني في " ثمره " والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس [ آية 35 ] وأما الذي في سورة " الكهف " ففيه ثلاث قراءات : فعاصم يقرؤه بفتحتين ، كما يقرؤه في هذه السورة ، وفي يس فاستمر على عَمَلٍ واحد ، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث ، فاستمر على عمل واحد ، وأما نافع وابن كثير وابن عامر فقرأوا في " الأنعام " و " يس " بفتحتين ، وقرأوا ما في " الكهف " بضمتين .
وأما أبو عمرو فقرأ ما في " الأنعام " و " يس " بفتحتين ، وما في " الكهف " بضمة وسكون ، وقد ذكروا في توجيه الضمتين في " الكهف " ما لا يمكن أن يأتي في السورتين ، وذلك أنهم قالوا في الكهف : الثُّمُر بالضم : المال ، وبالفتح المأكول .
قوله : " إذَا أثْمَرَ " ظرف لقوله : " انْظُرُوا " وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف ، وأن يكون شرطاً ، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي : إذا أثمر فانظروا إليه .
قوله : " وَيَنْعِهِ " الجمهور{[14761]} على فتح الياء مِنْ " يَنْعهِ " وسكون النون .
وقرأ{[14762]} ابن محيصن بضم الياء ، وهي قراءة قتادة والضحاك .
وقرأ إبراهيم{[14763]} بن أبي عَبْلَةَ واليماني : يانعة ، ونسبها الزمخشري{[14764]} لابن محيصن ، فيجوز أن يكون عنه قراءتان ، والينعُ بالفتح والضم مصدر يَنَعَتِ الثمرة ؛ أي : نضجت ، والفتح لغة " الحجاز " والضم لغة بعض " نجد " ، ويقال أيضاً : يُنُع بضم الياء والنون ويُنُوع بواو بعد ضمتين .
وقيل : اليَنْعُ بالفتح جمع " يانع " كتاجر وتَجْر ، وصاحب وصَحْب ، ويقال : يَنَعت الثمرة ، وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى .
وقال الحجاج : " أرى رءوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا " ، ويانع : اسم فاعل .
وقيل : أينعت الثمرة وينعت احْمَرَّتْ قاله الفراء{[14765]} ، ومنه الحديث في المُلاعَنَةِ : " إنْ ولدَتْهُ أحْمَرَ مِثْلَ اليَنَعَةِ " {[14766]} وهي خَرَزَةٌ حمراء ، قيل : هي العَقيقُ ، أو نوع منه ويقال : يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل ، هذا قول أبي عبيده{[14767]} وأنشد : [ المديد ]
فِي قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ *** حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا{[14768]}
وقال الليث بعكس هذا ، أي بكسرها في الماضي ، وبفتحها في المستقبل وأينعت فهي تينعُ وتَوْنَعُ إيناعاً ويَنَعاً بفتح الياء ويُنعاً بضم الياء ، والنَّعت يَانِعٌ ومُونِعٌ .
فإن قيل هذا في أول حال حدوث الثمرة ، وقوله : " وينعه " أمر بالنظر في حَالِ تمامها وكمالها ، والمقصود منه أنَّ هذه الثمار في أول حدوثها على صفات مخصوصة عند كمالها تنتقل إلى أحوال مُتَضَادَّةٍ للأحوال السابقة .
قيل : إنها كانت مَوْصُوفَةً بالخضرة ، فتصير سَوْدَاءَ ، أو حمراء ، أو صفراء ، أو كانت مَوْصُوفَةً بالحموضة ، وربما كانت في أوَّل الأمْرِ بَارِدَةً بحسب الطبيعة ، فتصير في آخر الأمر حَارَّةً بحسب الطبيعة ، فحصول هذه التّبَدُّلاتِ والتغيرات لا بُدّ له من سَبَبٍ ليس هو تأثير الطَّبائعِ والفُصُولِ والأنجم والأفلاك ؛ لأن نِسْبَةَ هذه الأفعال بأسْرِهَا إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية مُتَشَابِهَةٌ ، والنِّسَبُ المتشابهة لا يمكن أن تكون سبباً لِحُدُوثِ الحوادث المختلفة ، ولما بَطَلَ إسْنادُ حدوث هذه الحوادث إلى الطَّبائع والأنْجُمِ والأفلاك ، وجب إسْنَادُهَا إلى القادرِ الحكيم العليم المُدَبِّرِ لهذا العالم على وَفْقِ الرحمة والمصلحة والحكمة ، فَنَاسَبَ ختام هذه الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلِكُم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } للدلالة على ما تقدم في وَحْدَانِيَّتِهِ ، وإيجاد المَصْنُوعَاتِ المختلفة من أنها ناَبِتَةً من أرض واحدة ، وتُسْقَى بماء واحد ، وهذه الدلائل إنما تَنْفَعُ المؤمنين دون غيرهم ، كقوله تبارك وتعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة :2 ] .
قال القاضي رحمه الله{[14769]} : المراد لمن يطلب الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ؛ لأنه لمن آمن ولمن لا يؤمن فإن قيل : لم أوقع الاختلاف بين الخَلْقِ في هذه المسْألةِ مع وجود مثل هذه الدلالة [ الجلية الظاهرة القوية ؟ ] .
أجيب عنه بأن قولة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلاَّ إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان ، فكأنه قيل : هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان .
فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالةِ ألبتة أصلاً فكان المقصود من هذه التخصيص التنبيه على ما ذكرنا .