ولما ذكر وجوه الإبداع التفريعي{[30604]} من هذين الكونين وأسباب البقاء له بما ينشأ عنه{[30605]} الفصول{[30606]} وغيرها ، أتبعه سببه القريب ، وهو الماء الذي جعل منه كل شيء حي ، فقال مفصلاً ما أجمله في الحب والنوى ، سائقاً له مساق الإحسان لما{[30607]} قبله من الدلائل ، فإن الدليل إذا كان على وجه الإحسان ومذكراً بالإنعام كان تأثيره في القلب عظيماً ، فينبغي للمشتغل بدعوة الخلق أن يسلك هذا المسلك ليكون للقلوب أملك{[30608]} : { وهو } أي لا غيره { الذي أنزل } أي بقدرته وعلمه وحكمته { من السماء } أي الحقيقية التي تعرفونها كما دل عليه صريح{[30609]} العبارة وما أشبهها من ذكور الحيوان المنبه عليه بطريق الإشارة { ماء } أي منهمراً ودافقاً .
ولما كان تفريع الخلق من الماء بمكان من العظمة لا يوصل إليه ، نبه عليه بالانتقال إلى التكلم في{[30610]} مظهر العظمة فقال : { فأخرجنا } أي على ما لنا من العظمة التي لا يدانيها أحد { به } أي الماء { نبات كل شيء } مختلفة{[30611]} طعومه وألوانه وروائحه وطبائعه ومنافعه وهو بماء واحد ، فالسبب واحد والمسببات كثيرة منفتة{[30612]} ، سواء كان ذلك النبات حقيقياً من النجم والشجر ، أو مجازياً من الأنثى والذكر ؛ ثم سبب عن الحقيقي لظهوره قوله دالاً على العظمة : { فأخرجنا منه } أي النبات { خضراً } أي شيئاً أخضر غضاً طرياً ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ؛ ثم زاد في بيان عظمته بقوله : { نخرج } أي حال كوننا مقدرين أن نخرج { منه } أي من ذلك الخضر { حباً متراكباً } أي في السنبل يركب بعضه بعضاً ويحرسه من أن يلتقطه الطير بعد ستره بالقشر بحسك طويل لطيف جداً كالإبر خشن{[30613]} ، بعد أن كان أصله حبة واحدة على صورتها ، أو منفتة في التراب بعد أن طوّره سبحانه في عدة أطوار ، إن فاعل ذلك لقادر مختار .
ولما كان نسبة الإخراج والإبداع إليه سبحانه وحده في مظهر العظمة خصوصاً وعموماً ، فعلم أن الكل منه ، وصار الحال في حد من الوضوح جدير بأن يؤمن من نسبة شيء إلى غيره لا سيما الذي هم له معالجون ، وبالعجز عن إبداعه عالمون ، وبدأ بما بدأ به أولاً في آية الفلق من الحب ؛ ثنى بما من النوى ، فقال معبراً لذلك الأسلوب : { ومن النخل } وتقديم الحب عليه هنا وفيما قبل يدل على أن الزرع أفضل منه ، فإنه قوت في أكثر البلاد ولأغلب الحيوانات والغذاء مقدم على الفاكهة{[30614]} ؛{[30615]} فإنها خلقت من طينة آدم{[30616]} ؛ ثم أبدل مما أجمل من ذلك قوله مبيناً : { من طلعها } أي النخل ، وهو أول ما يخرج منها في{[30617]} أكمامه { قنوان } جمع قنو ، وهو العذق بالكسر للشمراخ وهو الكباسة ، والعرجون عوده الذي يكون فيه البسر { دانية } أي قريبة التناول وإن طال أصلها بما علمكم وسهل لكم من صنعة{[30618]} الوصول إليها .
ولما لم يكن لهم من معالجة الأعناب وغيرها ما لهم من معالجة النخيل ، عطف على " نبات " منبهاً لهم على أنها - كالنخيل - هو سبحانه المتفرد بإبداعها كما تقدم - فقال : { وجنات } أي بساتين { من أعناب } وجمعها لكثرة أنواعها{[30619]} ، وبدأ بهاتين الشجرتين لفضلهما{[30620]} كما تقدم على غيرهما ، لأن ثمرهما فاكهة وقوت ، وقدم الأول لأنهم له أكثر ملابسة{[30621]} ، {[30622]} وإن كان العنب أشرف أنواع الفواكه ، فإنه ينتفع به من أول ظهوره لأنه{[30623]} أولاً يكون له خيوط خضر{[30624]} دقيقة حامضة لذيذة ، ثم تكون الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ{[30625]} منه رُبّ الحصرم وأشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، ويطبخ منه ألذ الأطعمة الحامضة ، وهو عنباً ألذ الفواكه وأشهاها ، ويدخر عنباً قريباً من سنة ، ويكون زبيبه غذاء ، ويكون منه الدِبس والخل وغير ذلك ، وأحسن ما فيه عجمه ، وهو يتخذ منه جوارشات عظيمة النفع للمعدة{[30626]} الضعيفة الرطبة وقدم النخيل لأنها قوت للعرب ، وبينها وبين الإنسان مشابهة في خواص كثيرة لا توجد في النبات ، ولذا جاء في الحديث " أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من طينة آدم عليه السلام ، وليس من الشجر يلقح غيرها " - رواه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية وأبو الشيخ عن علي رضي الله عنه{[30627]} ؛ وأتبعهما ما يليهما في الفضيلة فقال : { والزيتون } و{[30628]} قدمه لكثرة نفعه ، وينفصل منه دهن عظيم النفع في الأكل والضياء وسائر وجوه الاستعمال { والرمان }{[30629]} ختم به لحسنه وعظيم نفعه ، وهو مركب من أربعة أشياء : قشره وشحمه وعجمه ومائه ، فالثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة عفصية فائضة جداً ، والماء بضدها وهو ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطبع المعتدل ، وفي ذلك تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ودواء{[30630]} من وجه .
ولما ذكر الأقوات من الثمار والحبوب والأدهان وأشرف الفواكه وأعمها ، وكانت أشبه شيء بالآدمي في نشئه وبعثه واتفاقه واختلافه ، وكان اشتباه بعضها واختلاف بعضها - مع كونها تسقى{[30631]} بماء واحد وفي أرض واحدة - دالاً على القدرة والاختيار ، وكان السياق لإثبات الوحدانية ونفي الشريك بإثبات كمال القدرة التي هي منفية عن غيره ، فلا يصح أن يكون له شريك ، لأنه لا يكون إلا مشابهاً لشريكه كمال المشابهة فيما وقعت الشركة فيه ، وللبعث فكان المراد التفكر في ظواهرها وتقلباتها من العدم إلى الوجود وبعد الوجود ، ولمحاجة{[30632]} أهل الكتاب{[30633]} الموسومين بالعلم{[30634]} المنسوبين إلى حدة الأذهان وغيرهم من الفرق ، وكان افتعل يأتي للتعريف{[30635]} ، وهو المبالغة في إثبات أصل الفعل والاجتهاد في تحصيله والاعتمال ، فكان{[30636]} حصوله إذا حصل أكمل{[30637]} ، قال{[30638]} بانياً حالاً{[30639]} من كل ما تقدم : { مشتبهاً } أي في غاية الشبه بعضه لبعض حتى لا يكاد يتميز ، فلو قطع ثمرتا شجرتين منه لم يتميز ثمرة هذه{[30640]} من ثمرة هذه{[30641]} ، فلا يقابله حينئذ نفي التفاعل ، فإنه لمجرد مشاركة أمرين أو أكثر في أصل الفعل ، فعلم أن التقدير : وغير مشتبه ومتشابهاً ، ثم لما كان ربما تمسك القائل بالطبائع بهذه العبارة ، نفى ما ربما ظن من أن لهذه الأشياء عملاً في اشتباه بعضها ببعض فقال : { وغير متشابه } أي غير طالب للاشتباه مع أنه لا بد من شبه ما{[30642]} ، فالآية من الاحتباك : أثبت الاشتباه دلالة على نفي ضده ، وهو{[30643]} عدم التشابه{[30644]} ، و{[30645]} لأجل أن الاشتباه أبلغ من التشابه ، علق الأمر بالنظر الذي هو أثبت الحواس ، ودلالة على أن المراد إنما هو ظاهر ذلك ، لأنه كان في الدلالة على البعث والتوحيد الذي هذا سياقه فقال : { انظروا إلى ثمره } وهذا بخلاف الحرف الثاني ، فإنه في{[30646]} سياق الرد على العرب فيما يجعلون من خلقه لأصنامهم التي لا قدرة لها على شيء أصلاً ، ولذلك ختم الآية{[30647]} بالإذن لهم في الأكل منه للانتهاء عما كانوا يحرمونه{[30648]} منه على أنفسهم ، وبالأمر بالتصدق على من أمر بالصدقة عليه ، وأما الباطن الذي هو الأكل فسيأتي ؛ ثم نبه على تعميم النظر في جميع حالاته بقوله : { إذا أثمر } أي حين يبدو من كمامه ضعيفاً قليل النفع أو{[30649]} عديمه { وينعه } أي وانظروا إلى إدراكه إذ أدرك وحان قطافه ، ويعلم من ذلك النظر فيما بين ذلك ، لأنه يلزم من مراقبة الأول والآخر ، فيعلم{[30650]} استحالة ألوانه ومقاديره وطعومه وأشكاله وغير ذلك من شؤونه وأحواله ، ويلزم من ذلك أيضاً النظر{[30651]} إلى أشجاره ليعلم تفاوت بعضها واشتباه البعض الآخر في الطول والقصر والصغر والكبر وغير ذلك من سائر الأحوال ، كما أن ذلك موجود في التمر ، فاستناد هذه التبدلات والتغيرات ليس إلا إلى الفاعل المختار ، لأن نسبته إلى الطبائع والفصول على حد{[30652]} سواء ، فلو استندت إليها لم تتغير .
ولما كان اتخاذ هذه المذكورات أولاً والمخالفة بين أشكالها ومقاديرها وألوانها ثانياً دالاً على كمال القدرة المستلزم للوحدانية ، دل على عظمته بقوله{[30653]} مستأنفاً مشيراً{[30654]} بأداة البعد وميم الجمع : { إن في ذلكم } أي الأمر العظيم الشأن العالي الرتبة { لآيات } أي علامات على قدرة الصانع واختياره .
ولما كانت الآيات لا تغني{[30655]} عمن أريدت شقاوته قال : { لقوم يؤمنون * } أي حكم بأنهم - بحذقهم ونشاطهم وقوتهم{[30656]} على ما يحاولونه - يجددون الإيمان كلما تأملوا في مصنوعات الله سبحانه وتعالى{[30657]} الدالة عليه المشيرة بكل لسان إليه .