تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

الآية 99 وقوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } يذكرهم عز وجل عظيم منته بما ينزل من السماء من الماء ، ويخرج به نبات كل شيء ، كما ذكرهم من النعم بما جعل لهم من الشمس والنجوم { لتهتدوا بها في } الظلمات واشتباه الطريق ، وما جعل الليل للسكون والراحة والنهار للمعاش والتقلب ، وما جعل لهم من الشمس والقمر ، وجعل لهم فيهما من المنافع من نضج الأنزال والزروع وينعها ومعرفة عدد السنين والحساب والآجال التي أنعمها عليهم لئلا يوجهوا شكر هذه النعم إلى غيره ، ولا يتخذوا آلهة{[7498]} سواه .

وقد ذكرنا أن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك في إثبات الوحدانية{[7499]} والألوهية لله وإثبات الرسالة والنبوة [ لمحمد صلى الله عليه وسلم ]{[7500]} وإثبات البعث بعد الموت لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله .

وقوله تعالى : { فأخرجنا به نبات كل شيء } يحتمل قوله تعالى : { نبات كل شيء } ما بالخلق حاجة إليه ليعلم أن كل ما يخرج في الأرض أصله من الماء ، به ينبت مما يكون غذاء البشر وغذاء الحيوان كلهم والطيور كقوله تعالى : { وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } [ الأنبياء : 30 ] يذكرهم عظيم ما جعل لهم في الماء من المنافع على ما أخبر أنه به يخرج نبات كل شيء ، وبه حياة كل شيء . ثم من الأوقات ما لو نزل من السماء ما لم ينبت . دل أنه إنما ينبت بتدبير غير ، لا بالماء .

وقوله تعالى : { فأخرجنا منه خضرا } قيل به : يخرج أول ما يخرج خضرا ؛ يكون ابتداء كل نبت أخضر ، ثم يتحول إلى لون [ آخر ]{[7501]} يخبر عن لطفه وصنعه بما يخرج من الحب متراكبا بعضه على بعض ما لو اجتمع الخلائق كلهم لم يقدروا على تركيب مثله ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا .

وفيه دلالة أنه قد ينشئ الأشياء من لا شيء ، ولا سبب ، وإن كان قد أنشأ بعضها بأسباب نحو أن أخرج من ذلك النبات الأخضر حبوبا ، ولم تكن الحبوب في النبات ليعلموا أنه قادر على إنشاء الأشياء لا من شيء ولا سبب .

وفيه نقض قول الدهرية في كون الأشياء في شيء واحد ، كما هي لا تحتمل أن يكون عشرة آلاف نواة أو حبة في نواة واحدة ، أو تكون الشجرة مع طولها وغلظتها وعظمها في نواة واحدة .

وقوله تعالى : { ومن النخل } أي يخرج من النخل طلعها بالماء . وفيه من عظيم لطفه وتدبيره أن جعل النخيل والأشجار يتسرب / 156-ب/ بعروقها الماء ، ثم ينتشر في أصلها إلى أغصانها ، ثم يخرج منه ، ويظهر خضرا ليعلم عظيم تدبيره ولطفه .

وقوله تعالى : { قنوان دانية } قيل : القنوان العذوق ، يكون فيها الثمر والثمار ، واحدها قنو .

وقوله تعالى : { دانية } قال الحسن : { دانية } بعضها إلى بعض مجتمعة غير متفرقة على ما يكون من الأعناب والثمر والحبوب . فإن كان هذا فهو في الكل . وقال بعضهم : { دانية } قريبة ملتزقة بالأرض ، ينالها{[7502]} القائم والقاعد جميعا . وعن ابن عباس : { قنوان دانية } قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض .

وقوله تعالى : { وجنات من أعناب } أي أخرج الماء جنات وكرومها { والزيتون والرمان } قيل : أخرج بالماء أيضا الزيتون والرمان . وقال بعضهم : { والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه }أي يشبه ورق الزيتون في النظر ورق الرومان { وغير متشابه } ثمرهما{[7503]} في اللون والطعم . ولكن هو على الكل على كل الثمار ، ولا يشبه بعضه بعضا ؛ منها ما يشبه ساق هذا بساق آخر ، والثمار والحبوب مختلفة{[7504]} ، ومنها ما يشبه في اللون ، والطعم مختلف ، ومنها ما يشبه في الطعم ، واللون مختلف ؛ ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا لطيفا ، لم يكن كذلك بالماء ؛ لأنه لو كان كذلك بالماء لكان لا يختلف كل هذا الاختلاف في اللون والطعم والساق والورق دل أنه كان كذلك بغير : عليم مدبر حكيم ؛ أنشأه على ما أراد بلطفه .

وقوله تعالى : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } يحتمل الأمر بالنظر [ وجهين :

أحدهما ]{[7505]} : { انظر إلى ثمره إذا أثمر وينعه } كيف{[7506]} يقلبها ، ويحولها من حال إلى حال ومن لون إلى لون ؟

والثاني{[7507]} : أنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته أن كم خرج ؟ وأي مقدار خرج ؟ لم يقدروا عليه ؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة .

وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة ؛ وهو أن ينزله واحدا ، لا يختلط بعضه ببعض مع كثرة المطر وازدحامه وبعد السماء . ولو اجتمع الخلائق على حفظ مثله ما قدروا عليه . دل عليه أنه كان بمدير عليم حكيم .

وقوله تعالى : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } قد ذكرنا أنها تصير آيات لمن صدق بها ، وآمن . وأما من عاند ، وكابر ، ولم يتأمل فيها ، لم يفهم ما فيها من عجيب آياته وعظيم منته .

وقوله تعالى : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } وجهان آخران من الحكمة :

{ انظروا إلى ثمره إذا أثمر } أنه أول ما يخرج يخرج على لون واحد وعلى قدر واحد وعلى طعم واحد ، ثم تختلف ألوانها وطعومها{[7508]} ، وتتفاوت أقدارها ليعلموا أنه كان بتدبير واحد عليم حكيم قادر على خلق الأشياء بلا سبب ؛ لأنه لو كان كذلك بسبب ، لا بتدبير فيه ، كان سبب هذا كله واحدا ، فيجيء أن يخرج كله على سنن واحد . دل أنه خالق بذاته لا بسبب{[7509]} .

والثاني : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } أنه جعل ما يطيب منه للبشر ، وعلمهم أسبابا يتخذون بها الطيبات من ذلك من نحو النضج والطبخ وغيره ، وجعل لغيرهم من الحيوان كما هو خارج من الأرض ليعلموا أن غيرهم من الحيوان والدواب إنما جعلهم لمنافع البشر مسخرين لهم ، وأن البشر هم المقصودون في خلق الأشياء كلها ، وبالله الحول والقوة ، وله المنة والفضل .


[7498]:- في الأصل وم: إنها.
[7499]:- أدرج بعدها في الأصل وم: له.
[7500]:- ساقطة من الأصل وم.
[7501]:- ساقطة من الأصل وم.
[7502]:- في الأصل وم: يناله.
[7503]:- في الأصل وم: ثمرتها.
[7504]:- في الأصل وم: مختلف
[7505]:- في الأصل وم: أن.
[7506]:- في الأصل: أي كيف، في م: أن كيف
[7507]:- في الأصل وم: .
[7508]:- في الأصل وم: طعمها.
[7509]:-من م، في الأصل: سبب.