تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين ، الذين هم نَجَس دينًا ، عن المسجد

الحرام ، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر ، رضي الله عنهما ، عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف{[13357]} بالبيت عريان . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا .

وقال عبد الرازق : أخبرنا ابن جُرَيْج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } إلا أن يكون عبدًا ، أو أحدا من أهل الذمة{[13358]}

وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين{[13359]} حدثنا شريك ، عن الأشعث - يعني : ابن سَوَّار - عن الحسن ، عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك ، إلا أهل العهد وخدمهم{[13360]} {[13361]}

تفرد به أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا .

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }

وقال عطاء : الحرم كله مسجد ، لقوله تعالى : { فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .

ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [ على طهارة المؤمن ، ولما ]{[13362]} ورد في [ الحديث ]{[13363]} الصحيح : " المؤمن لا ينجس " {[13364]} وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم .

وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير .

وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال ابن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا : لتنقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن{[13365]} التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فنزلت{[13366]} { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } من وجه غير ذلك - { إِنْ شَاءَ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب ، من الجزية .

وهكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .

{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ } أي : بما يصلحكم ، { حَكِيم } أي : فيما يأمر به وينهى عنه ؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره ، تبارك وتعالى ؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة . فقال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }


[13357]:- في ت ، أ : "يطوفن".
[13358]:- تفسير عبد الرزاق (1/245).
[13359]:- في أ : "حسن".
[13360]:- في ت ، أ : "وخدمكم".
[13361]:- المسند (3/392) وقال الهيثمي في المجمع (4/10) : "فيه أشعث بن سوار وفيه ضعف وقد وثق".
[13362]:- زيادة من ك ، أ.
[13363]:- زيادة من ك ، أ.
[13364]:- صحيح البخاري برقم (283) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ولفظه : "إن المسلم لا ينجس".
[13365]:- في ت : "وليمكن".
[13366]:- في ك ، أ : "فنزل".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هََذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرّوا بوحدانيته : ما المشركون إلا نجس .

واختلف أهل التأويل في معنى النجَس وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك ، فقال بعضهم : سماهم بذلك لأنهم يُجْنِبون فلا يغتسلون ، فقال : هم نجس ، ولا يقربوا المسجد الحرام ، لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ : لا أعلم قتادة إلا قال : النجَس : الجنابة .

وبه عن معمر ، قال : وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة ، وأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال حذيفة : يا رسول الله إني جُنُب فقال : «إنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ : أي أجناب .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب . وهذ قول رُوي عن ابن عباس من وجه غير حميد ، فكرهنا ذكره .

وقوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا يقول للمؤمنين : فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم . وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرَم ، لأنهم إذا دخلوا الحرَم فقد قربوا المسجد الحرام .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الحرَم كله قبلة ومسجد ، قال : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ لم يعن المسجد وحده ، إنما عنى مكة والحرَم . قال ذلك غير مرة .

وذُكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما :

حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثني الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو : أن عمر بن عبد العزيز كتب : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع في نهيه قول الله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال : لا تصافحوهم ، فمن صافحهم فليتوضأ .

وأما قوله : بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فإنه يعني : بعد العام الذي نادى فيه عليّ رحمة الله عليه ببراءة ، وذلك عامَ حجّ بالناس أبو بكر ، وهي سنة تسع من الهجرة . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر ، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحجّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حِجة الوداع لم يحجّ قبلها ولا بعدها .

وقوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً يقول للمؤمنين : وإن خفتم فاقة وفقرا ، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام . فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ يقال منه : عال يَعِيل عَيْلَةً وعُيُولاً ، ومنه قول الشاعر :

وَما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غناهُ *** وَما يَدْرِي الغَنيّ مَتَى يَعِيلُ

وقد حُكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة : عال يَعُول بالواو . وذكر عن عمر بن فائد أنه كان تأوّل قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً بمعنى : وإذ خفتم ، ويقول : كان القوم قد خافوا ، وذلك نحو قول القائل لأبيه : إن كنت أبي فأكرمني ، بمعنى : إذ كنت أبي . وإنما قيل ذلك لهم ، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم انقطاع تجاراتهم ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك ، وأمّنهم الله من العَيْلة وعوّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ما هو خير لهم منه ، وهو الجزية ، فقال لهم : قاتلُوا الّذِينَ لا يُؤْمنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ . . . إلى : صَاغِرُونَ .

وقال قوم بإدرار المطر عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، قال : من أين تأكلون وقد نُفي المشركون وانقطعت عنكم العِير ؟ فقال الله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ فأمرهم بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم من فضله .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام ويَتّجرون فيه فلما نهُوُا أن يأتوا البيت قال المسلمون : من أين لنا طعام ؟ فأنزل الله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ فأنزل عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب عنهم المشركون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن عليّ بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . الآية ، ثم ذكر نحو حديث هناد ، عن أبي الأحوص ،

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، ومن يأتينا بالمتاع ؟ فنزلت : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خلدة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت هذه الآية : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : عَيلَةً قال : الفقر . فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية العوفيّ ، قال : قال المسلمون : قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم ، فنزلت : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : مِنْ فَضْلِهِ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، أحسبه قال : أنبأنا أبو جعفر ، عن عطية ، قال : لما قيل : ولا يحجّ بعد العام مشرك قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم . قال : فنزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني : بما فاتهم من بياعاتهم .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : بالجزية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان وأبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ، قال : أخرج المشركون من مكة ، فشقّ ذلك على المسلمين ، وقالوا : كنا نصيب منهم التجارة والمِيرة . فأنزل الله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ كان ناس من المسلمين يتألفون العير فلما نزلت براءة بقتال المشركين حيثما ثُقِفوا ، وأن يقعدوا لهم كل مرصد ، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين . فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العِير ؟ فعلم الله من ذلك ما علم ، فقال : أطيعوني ، وامضوا لأمري ، وأطيعوا رسولي ، فإني سوف أغنيكم من فضلي فتوكل لهم الله بذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ قال : قال المؤمنون : كنا نصيب من متاجر المشركين . فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله عوضا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام . فهذه الآية من أوّل براءة في القراءة ، ومن آخرها في التأويل : قاتِلُوا الّذِينَ لا يؤمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى قوله : عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، شقّ ذلك على المسلمين ، وكانوا يأتون ببياعات ينتفع بذلك المسلمون ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأغناهم بهذا الخراج الجزية الجارية عليهم ، يأخذونها شهرا شهرا ، عاما عاما . فليس لأحد من المشركين أن يقرَب المسجد الحرام بعد عامهم بحال إلا صاحب الجزية ، أو عبد رجل من المسلمين .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة .

قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : إلا صاحب جزية ، أو عبدا لرجل من المسلمين .

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الجزية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : أغناهم الله بالجزية الجارية شهرا فشهرا وعاما فعاما .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذميّ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً وذلك أن الناس قالوا : لُتْقَطَعنّ عنا الأسواق ولَتهلِكنّ التجارة وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق فنزل : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ من وجه غير ذلك إنْ شاءَ . . . إلى قوله : وَهُمْ صَاغِرُونَ ، ففي هذا عوض مما تخوّفتم من قطع تلك الأسواق . فعوّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية .

وأما قوله : إنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فإن معناه : إن الله عليم بما حدثْتكم به أنفسكم أيها المؤمنون من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام ، وغير ذلك من مصالح عباده ، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجَسٌ } خبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالبا . وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب . وقرئ " نجْسٌ " بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعا لرجس . { فلا يقربوا المسجد الحرام } لنجاستهم ، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم . وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع . { بعد عامهم هذا } يعني سنة " براءة " وهي التاسعة . وقيل سنة حجة الوداع . { وإن خفتم عيلةً } فقراً بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق . { فسوف يغنيكم الله من فضله } من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض . وقرئ " عائلة " على أنها مصدر كالعافية أو حال . { إن شاء } قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام . { إن الله عليم } بأحوالكم . { حكيم } فيما يعطي ويمنع .