تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) اختلف فيه : قال بعضهم : النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه . وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسه للحج وإقامة العبادات . دليله [ في ][ ساقطة من الأصل وم ] وجوه :

أحدها : قوله : ( بعد عامهم هذا ) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق في المنع من دخوله على غيره .

والثاني : قوله : ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) وخوف العيلة إنما يكون عن دخول[ من م ، في الأصل : دخوله ] مكة ؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه لكان لا خوف عليهم في ذلك } لأنهم يحضرون ، ويدخلون مكة للتجارة ، فلا خوف عليهم في ذلك .

والثالث[ في الأصل وم : أو ] : أن يقال : إنه ذكر المسجد الحرام لما أنهم كانوا يقصدون البيت والحج به ، فيكون النهي عن دخول المسجد نهيا عن الحج نفسه : وهو ما رُوي في الخبر أنه بعث عليا في الموسم بأربع ، وأمره أن ينادي في الناس : «ألا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد ، فأجله إلى مدته ، فإنه ( برئ من المشركين ورسوله )[ التوبة : 3 ] ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحج بعد العام مشرك »[ أدرج هذا الخبر في تفسير الآية الخامسة ( ص109 ) ][ البخار : 369 ] .

فالنهي الذي ورد عن دخول المسجد إنما هو نهي عن الحج نفسه ؛ لأن البيت هو الذي يُقصد إليه فيه . ألا ترى أنه قال : ( ولله على الناس حج البيت )الآية[ آل عمران : 93 ] وقال ( فمن حج البيت أو اعتمر ) الآية[ البقرة : 158 ] وقال ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) ؟ [ الحج : 29 ] ذكر البيت ، وهو المقصود بالحج في الإسلام والكفر جميعا . فعلى ذلك خرج النهي ، لكنه ذكر المسجد لما أن البيت فيه . فإذن كان ما ذكرنا .

فإن شئت فاجعل آخر الآية تفسير أولها [ وهو ][ ساقطة من الأصل وم ] قوله : ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) وهو ما ذكرنا أن النهي لو كان لدخول المسجد نفسه دون غيره من البقعة لكان ليس عليهم خوف العيلة ؛ لأنهم يدخلون مكة ، ويتجرون فيها ، ولا يدخلون المسجد .

وإن شئت فاجعل أول الآية تفسير آخرها ، وهو قوله : ( فلا يقربوا/210-ب/ المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) وهو ما ذكرنا . فإذا كان ما ذكرنا دل أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام ، [ وخبر ][ من م ساقطة من الأصل ] علي بن أبي طالب رضي الله عنه[ يدل أيضا ][ في الأصل : أيضا يدل ] على ذلك . فأما من كان من أهل الذمة ، والعبيد منهم ، فليسوا ، والله أعلم ، بداخلين في الآية ، إذا كانوا ممن لا يحج .

فإن قيل : إنه[ في الأصل وم : ان ] روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه نادى : [ ألا لا يدخل الحرم مشرك ، ولم يذكر الحج قيل له رُوي أنه قال : نادين ألا يحج بعد العام مشرك ، فيكون قوله : لا يدخل الحرم مشرك على الحج على ما ذكرنا . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة » يحتمل استثناء العبد والأمة لأن العبد لا يدخل للحج ولإقامة العبادة إنما يدخل لخدمة المولى إذا كان مسلما . وفي بعض الأخبار «إلا أحدا من أهل الذمة »[ السيوطي في الدر المنثور4/164 ] وفيه دلالة لقول أبي حنيفة : إن لا بأس للكافر أن يدخل المسجد . وقوله[ في الأصل وم : وقال ] : أرأيت لو أراد أن يسمع كلام الله ليؤمن ، فيمنع عن ذلك ، [ ويروم المُسْمِع ][ في الأصل وم : ويوم ] إتيان ذلك المشرك ، ليسمع كلامه ، فيكون الأمر بإبلاغ المأمن لذلك . وقد ذكرنا أن ليس في ظاهر الآية دلالة النهي عن دخول المسجد بل المراد من ذرك المسجد ما ذكرنا من الحج وإقامة العبادة لغير الله .

ألا ترى إلى قول الله : ( والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد )[ الحج : 25 ] وأن سبيل مكة كلها هذا السبيل ؟ وكذلك قوله : ( ثم محلها إلى البيت العتيق )[ الحج : 33 ] والحرم كله منحر إلا أن المعنى في ذلك ، والله أعلم ، ما ذكرنا ألا يدخل المشركون حجاجا .

ألا ترى أنا لا نعلم أن المشركين لم يزالوا مقيمين في الحرم بعد النداء ، ولم ينجلوا عنه ؟ ومما يدل على ذلك أيضا قول الله ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم )[ التوبة : 7 ] فإن كان يعني به موضع العهد فإن ذلك العهد يوم الحديبية عند الشجرة فقد صار ذلك الموضع من المسجد الحرام ، وهو في المسافة[ في م : المساجد ] بعيد منه الذين عوهدوا ، فإنهم [ كانوا يوم نادى ][ في الأصل وم : كان يوم بدر نادى ] علي رضي الله عنه فذلك خارج من مكة ، لأن أهل [ مكة ][ ساقطة من الأصل وم ] قد كانوا قبل ذلك حين فتحها النبي محاصري المسجد الحرام ، هم لا خارج مكة [ بل ][ ساقطة من الأصل وم ] في الحرم وما حوله وقوله : «لا يقرب المسجد الحرام مشرك » يخرج على وجوه : أحدها : لا تدعوهم يقربوا المسجد الحرام ، والثاني : قولوا لهم : لا تقربوا المسجد الحرام ، والثالث : على اليسارة : أي إذا قلتم لهم ذلك فلا تقربوا بعد ذلك .

وقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس ) أي أفعال المشركين نجس ، والعبادات التي يأتون فيها نجس ، وهو ما ذكر حين[ في الأصل وم : حيث ] قال : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان )[ المائدة : 90 ] صير عمل الشيطان رجسا . فعلى ذلك العبادات التي يقيمونها نجس ، فالنهي عن الحج نهي عن إقامة العبادات لغير الله لأن تلك البقعة نزهت عن إقامة العبادات لغير الله .

ثم اختلف في [ في الأصل وم : فيه ] قوله : ( إنما المشركون نجس ) يُخرج مُخرج الذم ، ولا يحتمل أن يذموا ، ويُشتموا بنجاسة الأحوال . دل أنه إنما لحقهم ذلك الذم بما اكتسبوا من الأفعال الذميمة ، وهو كقوله : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان )[ المائدة : 90 ] أخبر أن عمل الشيطان رجس ونجس . فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : ( إنما المشركون نجس ) أي نجس[ في الأصل وم : نجسة ] الأفعال لأن ذلك من كسبهم ، فاستوجبوا المذمة لكسبهم . وأما الأحوال فلا صنع لهم فيها .

وقوله تعالى : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) قيل : خافوا من العيلة لما نفي المشركون من مكة لأن معايش أهل مكة إنما [ كانت من الآفاق ، وبأهل الآفاق ][ في الأصل : كان من الآفاق ، في م : كان من الآفاق وبأهل الآفاق ] كان سعيهم وتجارتهم . لكن الله وعد لهم السعة والغنى بقوله : ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) .

قال بعضهم : دل وقوله : ( إن شاء ) على أنه إنما وعد لهم الإغناء في بعض الأوقات ، وقال بعضهم : قوله : ( إن شاء ) كان من رسول الله لأنه أمر رسوله [ أن يقولوا ][ في الأصل : أنه يغنيهم ، في م : أن يغنيهم ] وهو مأمور أن يستثني في جميع [ ما ][ من م ، ساقطة من الأصل ] يعده كقوله ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ) ( إلا أن يشاء الله )[ الكهف : 23و24 ] .

ويحتمل أن يكون قوله : ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) بهؤلاء الذين نفوا عنهم[ في الأصل وم : عنه ] لأنه حبب إليهم التجارة والمكاسب وما ينالون [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] الأرباح بها ؛ يحملهم ذلك على الإسلام فيسلمون ، فيدخلون فيها ، يحملهم حب التجارة على الإسلام ، فيكون لهم بهم غنى كما كان يحملهم حب التجارة والربح على[ في الأصل وم : عن ] الهجرة بقوله[ في الأصل وم : قوله ] : ( وتجارة تخشون كسادها )[ التوبة : 24 ] فعلى ذلك الأول .

وقال بعضهم : ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) الجزية التي ذكرها في الآية [ التي تلي ][ في الأصل وم : تتلو ] هذه .

وقوله تعالى : ( إن الله عليم حكيم ) بما أضمروا من خوف العيلة ، أو ( عليم ) بما لهم وعليهم وبمن يكون[ في الأصل وم : يكن ] لهم الغنى ( حكيم ) في أمره وحكمه .

[ وفي قوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] ( وإن خفتم عيلة ) دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم أنهم أضمروا ذلك في أنفسهم ، ثم أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . دل أنه إنما عرف ذلك بالله .