فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } أي ذوو نجاسة لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، والنجس مصدر لا يثنى ولا يجمع ، يقال رجل نجس ، وامرأة نجس ، ورجلان نجس ، وامرأتان نجس ، ورجال نجس ، ونساء نجس ، ويقال نجس ونجس بكسر الجيم وضمها ، يقال نجس بكسر النون وسكون الجيم وهوتخفيف من المحرك ، قيل لا يستعمل إلا إذا قيل معه رجس ، وقيل ذلك أكثري لا كلي .

والمشركون مبتدأ وخبره المصدر ، وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة والقذر لخبث باطنهم مبالغة في وصفهم بها . قال ابن عباس : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وقال قتادة ومعمر وغيرهما : أنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يتجنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، قيل أراد بالمشركين عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار ، وقيل بل جميع أصنافهم من اليهود والنصارى وغيرهم .

وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات كما ذهب إليه بعض الظاهرية وروي عن الحسن البصري وهو محكي عن ابن عباس ، وقال الحسن ابن صالح : من مس مشركا فليتوضأ ، ويروى هذا عن الزيدية ، وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه وتعالى أحل طعامهم ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك من فعله وقوله ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم ، فأكل في آنيتهم وشرب منها وتوضأ فيها وأنزلهم في مسجده وهو الحق ، وعن جابر بن عبد الله في هذه الآية قال : إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة .

{ فلا يقربوا المسجد الحرام } الفاء للتفريع فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرع على نجاستهم ، وإنما نهوا عن الاقتراب للمبالغة في المنع من دخول الحرم ، ونهى المشركين أن يقربوا راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك ، قاله أبو السعود فهو من باب قولهم لا أرينك ههنا ، والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم ، روي ذلك عن عطاء فيمنعون عنده من جميع الحرم ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } أراد به الحرم لأنه أسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيت أم هانئ .

وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم ، وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد ، وقال الشافعي : الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد .

قال ابن العربي وهذا جمود منه على الظاهر لأن قوله تعالى : { إنما المشركون نجس } تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة ، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وآله وسلم لثمامة بن أثال في مسجده وإنزال وفد ثقيف فيه .

وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي ، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة ، وقيده الشافعي بالحاجة ، وقال قتادة أنه يجوز ذلك للذمي دون المشرك .

والحاصل أن بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أنواع ( أحدهما ) الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ، ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية ، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك : وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يخرج إليه الإمام أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم .

والثاني الحجاز وحده ما بين يمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة ، قيل نصفها تهامي ونصفها حجازي ، وقيل كلها حجازي ، وقال ابن الكلبي : حد الحجاز ما بين جبل طي وطريق العراق .

قال الحربي : وتبوك من الحجاز فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيه أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام لأحاديث صحيحة في هذا الباب . منها ما روي عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما ، وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن قدم منهم تاجرا ثلاثة ، وجزيرة العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ، وأما في العرض فمن جدة ما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام .

والثالث سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد أو أمان وذمة لكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم لحاجة .

{ بعد عامهم هذا } فيه قولان ( أحدهما ) أنه سنة تسع وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم وهو عام نزول السورة ( الثاني ) أنه سنة عشر ، قاله قتادة . قال ابن العربي : وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ .

وأن من العجب أن يقال أنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان ، ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه : لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه اه .

ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه ، فإن الإشارة بقوله : { بعد عامهم هذا } إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء ، وهكذا في المثال الذي ذكره ، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب ، والأمر ظاهر لا يخفى ، ولعله أراد تفسير ( بعد ) المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر .

وأما تفسير العام المشار إليه بهذا فلا شك ولا ريب أنه عام تسع ، وعلى هذا يحمل قول قتادة ، وقد استدل من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد ، أعني قوله : { بعد عامهم هذا } قائلا : إن النهي مختص بوقت الحج والعمرة فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط ، لا عن مطلق الدخول ، ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده ، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص .

{ وإن خفتم عيلة } بالفتح الفقر ، يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر ، وقرأ علقمة وغيره عائلة ، وهو مصدر كالقائلة ، والعافية والعاقبة ، وقيل معناه خصلة شاقة ، يقال عالني الأمر يعولني أي شق علي واشتد . وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر ، وعيال الرجل من يعلوهم ، وواحد العيال عيل كجيد والجمع عيائل كجيادئ ، وأعال الرجل كثرت عياله فهو معيل ، والمرأة معيلة قال الأخفش : أي صار ذا عيال .

وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات قذف في قلوبهم الخوف من الفقر بانقطاع تجارتهم عنهم وقالوا من أين نعيش ، فوعدهم الله أن يغنيهم وقال : { فسوف يغنيكم الله من فضله } قال الضحاك : ففتح الله عليهم باب الحرب من أهل الذمة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية .

وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به ، وقيل أغناهم بالفيء ، قال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون ، وقال الضحاك وقتادة عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها .

{ إن شاء } فائدة التقييد بالشيئة التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به مما له تعلق بالزمن المستقبل ، ولئلا يفترون عن الدعاء والتضرع ويعلموا أن الغنى الموعود به يكون لبعض دون بعض ، وفي عام دون عام { أن الله عليم } بأحوالكم { حكيم } في إعطائه ومنعه ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .