قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } الآية .
اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام ، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسوله ، قال أناس : يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ؛ فنزلت هذه الآية ، لرفع الشُّبهةِ ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فَقْراً وحاجةً ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } قال الأكثرون : لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ ، وقال قومٌ : يتناولُ جميع الكُفَّارِ ، وقد تقدم ذلك .
قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ : " نَجَسٌ " قذر{[17709]} .
وقيل : خَبِيثٌ ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى ، والتثنية والجمع . جعلوا نفس النَّجَس ، على المبالغة ، أو على حذفِ مضاف .
وقرأ أبو حيوة{[17710]} " نِجْسٌ " بكسر النُّون وسكون الجيم ، ووجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على " فَعِل " مثل : " كَتِف وكَبِد " ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه ، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه ، أي : فريق نجس ، أو جنس نجس ، فإذا أفرد قيل " نَجس " بفتح النون .
قال البغوي " ولا يقال على الانفراد ، بكسر النُّون وسكون الجيم ، إنَّما يقال " رِجْسٌ نِجْسٌ " ، فإذا أفرد قيل " نَجِسٌ " بفتح النون وكسر الجيم " وقرأ{[17711]} ابن السَّميفع " أنْجَاس " بالجمع ، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور ، أو جمع قراءةِ أبي حيوة ، وأراد به نجاسة الحكم ، لا نجاسة العين ، سُمُّوا نجساً على الذَم .
وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ " سماهم نجساً " ؛ لأنَّهم يجنبون ، فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضؤون " {[17712]} ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ " أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير " وعن الحسنِ " مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ " {[17713]} وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية .
وأمَّا الفقهاءُ : فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم ، وهذا هلاف ظاهر القرآن ، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف .
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان نجساً ، لما تبدل ذلك بالإسلام ، وأجاب القائلون بالنجاسة : بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر ؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين :
الأول : أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن ، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى ، وكانت المعاهدة حاصلة معهم ، فأزالها الله ؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً : الشرب من أوانيهم ، كان جائزاً فحرمه اللهُ .
الثاني : أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية ، ثم حل بحكم الخبرِ ، فقد حصل نسخان ، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة ؛ فوجب أن يكون هذا أولى .
وأما قولهم : لو كان الكافرُ نجس العين ، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام . فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح ، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين ، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت ، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم ؛ وجب عليه الاغتسالُ ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر ، وهذا ضعيفٌ ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل ، إنما يطهر بالغسل ما ينجس .
قالت الحنفيَّةُ : أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية{[17714]} ، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل في رفع الحدث نجس ، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : أنَّهُ نجاسة خفيفة ، وروى الحسنُ بن زيادٍ : أنَّه نجس نجاسة غليظة ، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول ؛ لأن كلمة " إِنَّمَا للحصر ، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك ، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة ، يخالف هذا النَّص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس ، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية ، وقالوا : المشرك طاهرٌ ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس ، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، مع مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام : " المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً ، ولا ميتاً " وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده ، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب ، والقرآن ، والخبر ، والإجماع ، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته ؟
قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام : نفس المسجدِ ، وقيل : جميع الحرم ، وهو الأقربُ لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة ، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم ، ويؤكد هذا قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ " {[17715]} وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً ، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً ، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام :
أحدها : الحرم ، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام ، والإمام في الحرمِ ، لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه ، أخرجناه مريضاً ، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه ، وأخرجنا عظامه إذا أمكن ، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .
والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجازُ ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ ، مقام السفرِ ، لما روي عن عمر بن الخطابِ ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال : " أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب " فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر ، وأجلاهم عمر في خلافته ، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً{[17716]} .
والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام ؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم .
والمراد بقوله " بَعْدَ عامهم هذا " يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس ، ونادى علي بالبراءة ، وهو سنة تسع من الهجرةِ .
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } . العيلةُ : الفقرُ ، يقال : عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً : إذا افتقر . والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار : " فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ " قال مقاتل " أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكَّة ، فكفاهم الله ما كانوا يخافون " {[17717]} .
وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ : " عوَّضهم الله عنها بالجزية " وقيل : أغناهم بالفيء{[17718]} . وقال عكرمة : " أنزل اللهُ عليهم المطر ، وكثر خيرهم " {[17719]} .
فإن قيل : الغرضُ بهذا الخبر ، إزالة الخوف بالعيلة ، وقوله " إن شَاء اللهُ " يمنع من فائدة هذا المقصود .
الأول : ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب ؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ، وفي دفع الآفات .
الثاني : أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب ، كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله } [ الفتح : 27 ] .
الثالث : المقصودُ : التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات ، وفي جميع الأمكنة ؛ لأنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام - قال في دعائه : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } [ البقرة : 126 ] وكلمة " مِنْ " للتبعيض ، فقوله ههنا " إن شَاءَ اللهُ " المراد منه ذلك التبعيض .
ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم ، " حَكِيمٌ " أي : لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب .