فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

النجس مصدر لا يثنى ولا يجمع ، يقال رجل نجس ، وامرأة نجس ، ورجلان نجس ، وامرأتان نجس ، ورجال نجس ، ونساء نجس . ويقال : نجس ونجس بكسر الجيم وضمها . ويقال : نجْس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك . قيل : لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس ؛ وقيل ذلك أكثريّ لا كليّ . والمشركون مبتدأ ، وخبره المصدر ، مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة ، أو على تقدير مضاف : أي ذوو نجس ؛ لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس . وقال قتادة ومعمر وغيرهما : إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون ، ولا يغتسلون ، ولا يتجنبون النجاسات .

وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات ، كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية . وروي عن الحسن البصري ، وهو محكيّ عن ابن عباس . وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات ؛ لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم ، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله ، وقوله ، ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم ، فأكل في آنيتهم ، وشرب منها ، وتوضأ فيها ، وأنزلهم في مسجده .

قوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } الفاء للتفريع ، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرّع على نجاستهم . والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم ، روي ذلك عن عطاء ، فيمنعون عنده من جميع الحرم ، وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه ، فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم .

وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد ؛ فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد . وقال الشافعي : الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام ، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد . قال ابن العربي : وهذا جمود منه على الظاهر ؛ لأن قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة ، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده ، وإنزال وفد ثقيف فيه . وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي ، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة ، وقيده الشافعي بالحاجة . وقال قتادة : إنه يجوز ذلك للذميّ دون المشرك . وروي عن أبي حنيفة أيضاً أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد ، ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي للمسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك ، فهو من باب قولهم : لا أرينك هاهنا . قوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } فيه قولان : أحدهما : أنه سنة تسع ، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم . الثاني : أنه سنة عشر قاله قتادة ، قال ابن العربي : وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ ، ومن العجب أن يقال : إنه سنة تسع ، وهو العام الذي وقع فيه الأذان ، ولو دخل غلام رجل داره يوماً فقال له مولاه : لا تدخل هذه الدار بعد يومك ، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه انتهى . ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه ، فإن الإشارة بقوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء ، وهكذا في المثال الذي ذكره ، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب ، والأمر ظاهر لا يخفى ، ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر ، وأما تفسير العام المشار إليه بهذا ، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع ، وعلى هذا يحمل قول قتادة . وقد استدلّ من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد ، أعني قوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } قائلاً إن النهي مختصّ بوقت الحج والعمرة ، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط ، لا عن مطلق الدخول . ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده ، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص . قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } العيلة : الفقر ، يقال : عال الرجل يعيل : إذا افتقر ، قال الشاعر :

وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود «عايلة » وهو مصدر : كالقايلة والعافية والعاقبة ؛ وقيل : معناه : خصلة شاقة ، يقال : عالني الأمر يعولني : أي شقّ عليّ واشتدّ . وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال : عال يعول : إذا افتقر . وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات ، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر ، وقالوا : من أين نعيش ؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله . الآية .

قال الضحاك : ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } الآية . وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض ، وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به . وقيل : أغناهم بالفيء ، وفائدة التقييد بالمشيئة : التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به ، مما له تعلق بالزمن المستقبل ، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرّع { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم { حَكِيمٌ } في إعطائه ومنعه ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .

/خ29