تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض ، فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي : قصد إلى السماء ، والاستواء هاهنا تَضَمَّن{[1457]} معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى { فَسَوَّاهُنَّ } أي : فخلق السماء سبعًا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : { فَسَوَّاهُنَّ } . { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق{[1458]} . كما قال : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] .

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله . فأما قوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 27 - 32 ] فقد قيل : إن { ثُمَّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما قال الشاعر :

قل لمن ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد ساد قبل ذلك جده{[1459]}

وقيل : إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .

وقد قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] {[1460]} } قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : { ن وَالْقَلَمِ{[1461]} } والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر مَلَك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر{[1462]} لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ{[1463]} } [ النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } [ فصلت : 9 ، 10 ] . يقول : أنبت شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } يقول : أقواتها لأهلها { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر . { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } [ فضلت : 12 ] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي{[1464]} فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظًا{[1465]} تُحْفَظُ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ويقول { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر{[1466]} ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عَجَل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

وقال مجاهد في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا } قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن تحت بعض .

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 27 - 31 ] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض . وفي صحيح البخاري{[1467]} : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 30 - 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضًا - من رواية ابن جُرَيج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل " {[1468]} .

وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه{[1469]} مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي{[1470]} .


[1457]:في جـ، ط: "مضمن".
[1458]:في جـ: "وعلمه محيط بجميع الخلق"، وفي ط: "وعلمه محيط بالأشياء بجميع ما خلق".
[1459]:البيت في مغني اللبيب لابن هشام غير منسوب. أ. هـ. مستفادا من حاشية الشعب.
[1460]:زيادة من جـ.
[1461]:في جـ: "والقلم وما يسطرون".
[1462]:في ب: "ذكرها"
[1463]:في جـ: "وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم"، وفي ط: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وفي ب: "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم".
[1464]:في جـ، ط: "الذين".
[1465]:في أ: "وحفظها".
[1466]:في جـ: "وأخر".
[1467]:صحيح البخاري (8/555) "فتح".
[1468]:تفسير ابن أبي حاتم (1/103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010).
[1469]:في جـ، ط، ب: "فجعله".
[1470]:الأسماء والصفات (ص276) وللعلامة عبد الرحمن المعلمي كلام متين في تصحيح هذا الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "الأنوار الكاشفة" (ص185 - 190) فليراجع فإنه مهم.