تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ} (51)

قد أورد أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله تعالى ، عند قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } سؤالا فقال : قد عُلِم أن بعض الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا {[25537]} وشعياء ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم {[25538]} ، وإما إلى السماء كعيسى {[25539]} ، فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين{[25540]} .

أحدهما : أن يكون الخبر خرج عاما ، والمراد به البعض ، قال : وهذا سائغ في اللغة .

الثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم ، كما فُعِلَ بقتلة يحيى وزكريا {[25541]} وشعياء ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم ، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح ، عليه السلام ، من اليهود ، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وأظهرهم الله عليهم . ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا ، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام . وهذه نصرة عظيمة ، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه : أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ، ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب " {[25542]} وفي الحديث الآخر : " إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " {[25543]} ؛ ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود ، وأصحاب الرس ، وقوم لوط ، وأهل{[25544]} مدين ، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق . وأنجى الله من بينهم المؤمنين ، فلم يهلك منهم أحدًا وعذب الكافرين ، فلم يفلت منهم أحدا {[25545]} .

قال السدي : لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال : فكانت {[25546]} الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا ، وهم منصورون فيها .

وهكذا نصر الله [ سبحانه ]{[25547]} نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه ، وكذبه وعاداه ، فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان . وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر ، فنصره عليهم وخذلهم له ، وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح [ عليه ] {[25548]} مكة ، فقرت عينه ببلده ، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم ، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر ، وفتح له اليمن ، ودانت له جزيرة{[25549]} العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجا . ثم قبضه الله ، تعالى ، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة ، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله ، ودعوا عباد الله إلى الله . وفتحوا البلاد والرّساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها . ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام {[25550]} الساعة ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } أي : يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل .

قال مجاهد : الأشهاد : الملائكة .


[25537]:- (1) في ت، أ: "كيحيى بن زكريا"
[25538]:- (2) في أ: "كإبراهيم عليه السلام".
[25539]:- (3) في أ: "كعيسى عليه السلام".
[25540]:- (4) تفسير الطبري (24/48).
[25541]:- (5) في ت "يحيى بن زكريا".
[25542]:- (6) صحيح البخاري برقم (6502).
[25543]:- (7) لم أجده بهذا اللفظ وقد رواه أبو نعيم في الحلية (1/11) موقوفا على ابن عباس: "وأنا الثائر لأوليائي يوم القيامة".
[25544]:- (8) في أ: "وأصحاب".
[25545]:- (9) في س: "واحدا".
[25546]:- (10) في ت، س: "وكانت".
[25547]:- (1) زيادة من أ.
[25548]:- (2) زيادة من ت، وفي أ: "عليهم".
[25549]:- (3) في ت: "جزائر".
[25550]:- (4) في ت: "يوم".