تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ} (51)

الآية 51 وقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يحتمل ما ذكر من النصر للرسل والمؤمنين وجوها :

أحدها : أن ينصرهم في الدنيا بالحجج والآيات التي أعطاهم في الدين حتى يدفعوا{[18306]} بها تسويلات الشيطان وتمويهات السحرة وتقلُّبَهم{[18307]} ، ويعلوا على الكل . هذا في الدنيا ، وفي الآخرة أيضا ينصرهم بما تشهد لهم عليهم الملائكة والجوارح بالتكذيب للرسل والمؤمنين وأنهم دعوهم إلى التوحيد والإيمان لكنهم كذّبوهم ، وكفروا بما دعوهم إليه . فذلك نصره إياهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم .

والثاني : ينصرهم بما يجعل لهم العواقب وآخر الأمر له ، وإن كان في الابتداء قد يكون عليهم . وعلى ذلك لم يُذكر عن أحد من الرسل إلا وقد كانت عاقبة الأمر له ، وهو كقوله تعالى : { والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] فهذا النصر ، هو النصر في الأبدان ، والأول ، هو نصر في الدين . ولكن إن كان هو نصرا في الأبدان فهو نصر ، يرجع إلى الدين لما يقوم الدين بسلامة الأبدان ، ويتحقق به عن المسلمين ، والله الموفّق .

والثالث : ذكر نصرهم لما أعطاهم من النعمة في الدنيا والسعة فيها ، وهو يذكر للرسل والمؤمنين نصرا ونعمة ومعونة .

أما هي للكفرة ففتنة ومحنة ، لا غير ، لا يُذكر باسم النصر والنعمة ؛ إذ هي في حق المسلمين وسبيله إلى النعمة الأبدية ، وفي حق الكفرة إلى العذاب الأبد ، فيكون نِقمة في حقهم حقيقة .

ولذلك قال تعالى : { الم } { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1 و2 ] وقال : { بل هي فتنة } [ الزمر : 49 ] ومحنة لهم ، والله أعلم .

فإن قيل : ذكر أنه ينصرهم ، وقد نرى مؤمنا ، قد تنقطع حُجَجه ، ويعجز عن إقامتها ، ونراه مغلوبا ، والكافر هو الغالب ، قيل عن هذا جوابان{[18308]} :

أحدهما : من جعل العاقبة له والغلبة والنصر في آخر الأمر .

والثاني : جائز أن يكون وعده بالنصر لهم والظفر بالحجة بالشريطة ، وهي القيام بوفاء ما لله عليهم من الحق في ذلك . فالنصر والظفر بالحجة في المناظرة أن يكون يُرجَى عمره في معرفة الحجج والدلائل ، وأن يكون عارفا بطرق النظر ، ومتى كان هذا الشرط موجودا فيكون النصر له لا محالة .

وشرط الظّفر في المحاربة أن يكونوا قاصدين إعزازا دين الله تعالى دون ابتغاء الدنيا ، وكلمتهم واحدة ، ونحوه .

ومتى كانت المحاربة بشرائطها يكون الظفر للمسلمين . وذلك كقوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم } [ البقرة : 40 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } قال بعضهم : الأشهاد ، هم الملائكة ، يكتبون أعمال بني آدم ، يشهدون عليهم بما عملوا من الأعمال . وقال بعضهم : الأشهاد هم الرسل ، يشهدون عند رب العالمين على الكفرة بالتكذيب والرّد . وقال بعضهم : تشهد عليهم الجوارح يومئذ بما كان منهم ، والله أعلم .


[18306]:في الأصل وم: يدفع.
[18307]:في الأصل وم: وتقلبها.
[18308]:في الأصل وم: جوابين.