جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ} (51)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ } .

يقول القائل : وما معنى : إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه ، ومثّلوا به ، كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما ، ومنهم من همّ بقتله قومه ، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه ، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه ، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله ، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله ، والمؤمنين به في الحياة الدنيا ، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت ، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به ؟ قيل : إن لقوله : إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا وجهين كلاهما صحيح معناه . أحدهما أن يكون معناه : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائناهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم ، حتى يقهروهم غلبة ، ويذلوهم بالظفر ذلة ، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان ، فأعطاهما من الملُك والسلطان ما قهرا به كل كافر ، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذّبه من قومه ، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذّبهم وعاداهم ، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه ، من تغريق قومه وإنجائه منهم ، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه ، إذ أهلكهم غرقا ، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيرهم ونحو ذلك ، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم ، مالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه ، بتسليطنا على قتله مَن سلّطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته ، وكفعلنا بقتلة يحيى ، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم ، فهذا أحد وجهيه . وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قول الله : إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون ، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قوما فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم .

والوجه الاَخر : أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين ، والمراد واحد ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : إنا لننصر رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به في الحياة الدنيا ، ويوم يقود الأشهاد ، كما بيّنا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع ، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصا بعينه .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِين مَعْذِرَتُهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة وَيَوْمَ يَقُومُ بالياء . وينفع أيضا بالياء ، وقرأ ذلك بعض أهل مكة وبعض قرّاء البصرة : «تَقُومُ » بالتاء ، و «تَنْفَعُ » بالتاء .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقد بيّنا فيما مضى أن العرب تذكر فعل الرجل وتؤنث إذا تقدم بما أغنى عن إعادته . وعُني بقوله : وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة رسلها بالشهادة بأن الرسل قد بلغتهم رسالات ربهم ، وأن الأمم كذّبتهم . والأشهاد : جمع شهيد ، كما الأشراف : جمع شريف . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ من ملائكة الله وأنبيائه ، والمؤمنين به .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ يوم القيامة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قول الله : ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ قال الملائكة .