{ لا أقسم بيوم القيامة . . . } أي أقسم به . أقسم بالنفس اللوامة . " ولا " زائدة في الموضعين ؛ كما في قوله تعالى : " لئلا يعلم أهل الكتاب " {[374]} ، " فلا وربك لا يؤمنون " {[375]} ، وقولهم : لا وأبيك . إذ لا فرق بين زيادتها أول الكلام أو وسطه . وقيل : هي نفي ورد لكلام مضى من المشركين ؛ حيث أنكروا البعث والجزاء . كأنه قيل " لا " ! أي ليس الأمر كما زعموا . ثم قيل : أقسم بيوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء . وأقسم بالنفوس اللوامة ، المتقية التي تلوم أنفسها على ما فات ، وتندم على الشر لم فعلته ! وعلى الخير لم لم تستكثر منه ! فهي على الدوام لأمة لأنفسها . وجواب القسم محذوف لدلالة ما بعده عليه ؛ أي لتبعثن على ما عملتم .
سورة القيامة مكية وآياتها أربعون ، نزلت بعد سورة القارعة . وهي تعالج موضوع البعث والجزاء فإن هذا الموضوع جاء غريبا على المشركين الذين
لا يؤمنون به . وقد بدأت بالحديث عن يوم القيامة ، وأقسم الله بعظمة القيامة وبالنفس اللوامة الطماحة إلى الرقي ، التي لا ترضى بمرتبة إلا طلبت سواها ، ولا بحالة إلا أحبت ما تلاها ، ورامت ما فوقها . وهذا القسم كأنه استدلال على القيامة ، يقول : إن ما في النفوس من حب الرقي وعدم الوقوف عند حد محدود في هذه الحياة ، دليل على أن هناك حالا أخرى ينال فيها الإنسان ما كان يرغبه .
وأن هذا القسم وأمثاله لم يكن للعرب به عهد ، ولم يطرق آذانهم ، فإنهم تعودوا أن يُقسموا بالأشياء المعهودة فيما بينهم لا يتجاوزونها ، فيقسمون بالأب وبالعمر ، وبالكعبة . أما هذه الأقسام العجيبة فكانوا لا يعرفونها ، ولا يقسمون بها . . فإن فيها دلائل على ما يقصد في جوابها ، وفيها فتح باب البراهين والحكمة والعلم .
وبعد هذا القسَم العظيم بالقيامة وبالنفس اللوامة يؤكد الله تعالى أنه سيبعث الناس ويجمع عظامهم . وقد شرح ذلك بعض الشرح بقوله تعالى : { يسأل أيّان يوم القيامة ، فإذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجُمع الشمس والقمر ، يقول الإنسان يومئذ أين المفر } . فأتى بثلاث علامات على يوم القيامة ، وعند ذلك يعاين الإنسان الحقائق ، ويعلم أنه لا مفر من عذاب الله ، ويرى حسابه بنفسه وكل
ثم يأتي بأربع آيات فيها توجيه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتعليم خاص في شأن تلقي هذا القرآن العظيم ، ليطمئنه إلى أنّ أمر هذا الوحي ، وحفظ القرآن ، وجمعه وبيان مقاصده ، كل أولئك موكول إلى الله ، وما عليه إلا أن يتلقى ويبلّغ ما تلقى .
ثم يوجه الردع إلى من يحبون العاجلة ويذرون الآخرة ، ثم يوازن بين وجوه المؤمنين الناضرة ، ووجوه الكافرين الباسرة الكالحة المعبسة .
ثم يأتي الحديث عن حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردّا ، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا . وهي تكرر في كل لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعفاء ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا لا حيلة ولا وسيلة ولا قوة ولا شفاعة { كلا إذا بلغت التراقي ، وقيل من راق ، وظن أنه الفراق ، والتفّت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ المساق } .
وبعد هذا المشهد الرهيب الذي حير البشر ، واستسلموا تجاهه لأمر الله ، تتحدث السورة عن النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا ، كما أنها بينة لا تُرد على يسر النشأة الأخرى ، { أيحسب الإنسان أن يُترك سدى ، ألم يكُ نطفة من مني يُمنى ، ثم كان علقة فخلَقَ فسوّى ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ، أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتى } ؟ كما قدر الله على الخلق الأول وأوجد الإنسان من نطفة لا ترى بالعين المجردة ، فمن الهيّن عليه أن يعيده خلقا جديدا .
وقد سميت السورة " سورة القيامة " بقوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } ولأنها تعالج هذا الموضوع بأسلوب عظيم ، وأداء ممتاز بعرض مشاهد يوم القيامة
وما يمس الإنسان من خلق وموت وحياة وتختم السورة كما بدئت بإثبات الحشر والمعاد .
لا أُقسِم بيوم القيامة : إن الامر لا يحتاج إلى قسم لأنه في غاية الوضوح .
{ 1 - 6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }
ليست { لا } [ ها ] هنا نافية ، [ ولا زائدة ] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها ، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين ، لا يستغرب الاستفتاح بها ، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح .
فالمقسم به في هذا الموضع ، هو المقسم عليه ، وهو البعث بعد الموت ، وقيام الناس من قبورهم ، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم .
قوله تعالى : " لا أقسم بيوم القيامة " قيل : إن " لا " صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة ؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حكم كلام واحد ؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى ، كقوله تعالى : " وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون{[15599]} " [ الحجر : 6 ] . وجوابه في سورة أخرى : " ما أنت بنعمة ربك بمجنون{[15600]} " [ القلم : 2 ] . ومعنى الكلام : أقسم بيوم القيامة ، قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ، ومثله قول الشاعر :
تذكرت ليلَى فاعترتني صَبَابَةٌ *** فكاد صميمُ القلبِ لا يَتَقَطَّعُ
وحكى أبو الليث السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى " لا أقسم " : أقسم . واختلفوا في تفسير : " لا " قال بعضهم : " لا " زيادة في الكلام للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة ( لا ) كما قال في آية أخرى : " قال ما منعك أن تسجد " [ ص : 75 ] . يعني أن تسجد ، وقال بعضهم : " لا " : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم .
قلت : وهذا قول الفراء . قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون " لا " صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم ( في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ{[15601]} ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل " فلا " رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه . وأنشد غير الفراء لامرئ القيس :
فلا وأبيك ابنةَ العامري *** لا يَدَّعِي القومَ أني أَفِرّْ
ألا نادت أمامةُ باحتمال *** لتُحزنني فلا بِكِ ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد . قال الفراء : وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ " لأقسم " بغير ألف ، كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم ، وهو صواب ؛ لأن العرب تقول : لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز " بيوم القيامة " أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء .
سورة القيامة{[1]}
مقصودها الدلالة على عظمة المدثر المأمور بالإنذار صلى الله عليه وسلم لعظمة مرسله سبحانه وتمام اقتداره بأنه كشف له العلوم حتى صار إلى الأعيان{[2]} بعد الرسوم{[3]} بشرح آخر سورته من أن هذا القرآن تذكرة عظيمة لما أودعه [ الله-{[4]} ] من وضوح{[5]} المعاني وعذوبة الألفاظ وجلالة النظوم{[6]} ورونق السبك وعلو المقاصد ، فهو لذلك معشوق لكل طبع ، معلوم ما خفي من أسراره{[7]} وإشاراته بصدق النية وقوة العزم بحيث يصير بعد كشفه إذا أثر {[8]}كأنه كان{[9]} منسيا بعد حفظه فذكر { فمن شاء ذكره } فحفظه{[10]} وعلم معانيه وتخلق بها ، وإنما المانع عن ذلك مشيئة الله تعالى ، فمن شاء حجبه عنه أصلا ورأسا ، ومن شاء حجبه عن{[11]} بعضه ، ومن شاء كشف عنه الحجاب ، وجعله يعينه على أعظم صواب ، دون شك ولا ارتياب ، وجلى عليه أوانسه وعرائسه وحباه جواهره ونفائسه ، وحلاه به ؛ فكان ملكه وسائسه ، كما كان{[12]} المدثر صلى الله عليه وسلم حين كان خلقه القرآن ، واسمها القيامة واضح في ذلك جدا ، وليس فيها ما يقوم بالدلالة عليه غيره إذا تؤملت الآية مع ما أشارت إليه " لا " النافية للقسم أو المؤكدة مع أنها في الوضوح في حد لا يحتاج إلى الإقسام [ عليه-{[13]} ] لأنه لا يوجد أحد يدع من تحت يده يعدو بعضهم على بعض ، ويتصرفون فيما حولهم فيه من غير حساب ، فكيف بأحكم الحاكمين الذي وكل بعبيده أضعافهم من الملائكة فهم يريدون في كل لحظة فيهم كؤوس المنايا ، ويأخذون من أمرهم به سبحانه إلى داره{[14]} البرزخ للتهيئة للعرض ويسوقونهم زمرا بعد زمر إلى العود في الأرض حتى ينتهي الجمع في القبور ، ويقيمهم بالنقر{[15]} في الناقور ، والنفخ في الصور ، إلى ساحة الحساب للثواب و{[16]}العقاب ، / ولم يحجب عن علم ذلك حتى ضل عنه أكثر الخلق إلا مشيئته سبحانه بتغليب النفس الأمارة حتى صارت اللوامة منهمكة في الشر شديدة اللوم عن الإقصار عن{[17]} شيء منه كما أن ما جلاه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان خلقه ، ولمن أراد من أتباعه إلا إرادته سبحانه بتغليب{[18]} المطمئنة حتى صار الكل روحا صرفا [ و-{[19]} ] نورا خالصا بحتا { بسم الله } الذي شرف رسوله صلى الله عليه وسلم فأعجز الخلق بكتابه بما له من الجلال { الرحمن } الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان أهل الهدى والضلال { الرحيم* } الذي خص أهل العناية بالسداد في الأقوال والأفعال .
لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة{[70067]} المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه ، ثم أعاد أمرها آخرها ، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها ، وكان الكفار يكذبون بها ، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات ، وكانت{[70068]} العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع حلف على ما أخبره به ، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد ، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا-{[70069]} معاند ، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها{[70070]} وإثبات أمرها بعدم{[70071]} الإقسام أو تأكيده : { لا أقسم } أي لا أوقع{[70072]} الإقسام أو أوقعه{[70073]} مؤكداً { بيوم القيامة * } على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر{[70074]} غني فيه عن ذلك-{[70075]} وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنافي ، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً ، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان : والله إن الله موجود ، أي لا شيء أحلف به على وجوده - يا أيها المنكر - أعظم منه حتى-{[70076]} أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه ، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين{[70077]} الشيئين فلذا أوقع القسم بهما{[70078]} ، وسر التأكيد ب " لا " -{[70079]} كما قال الرازي في اللوامع ، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً ، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر .