{ الله الصمد } أي السيد الذي ليس فوقه أحد ، الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج ، ويقصدونه في المطالب . فعل بمعنى مفعول ؛ من صمد إليه بمعنى قصده . أو هو الغني المطلق ، الذي لا يحتاج إلى أحد ، ويحتاج إليه كل أحد . وتعريفه باللام لإفادة الحصر في الواقع ونفس الأمر ؛ فإن قصد الخلق إليه في الحوائج أعم من القصد الإرادي ، والقصد الطبيعي ، والقصد بحسب الاستعداد الأصلي الثابت لجميع الماهيات ؛ إذ هي كلها متجهة إلى المبدأ تعالى في طلب كمالاتها منه عز وجل .
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } أي : المقصود في جميع الحوائج . فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار ، يسألونه حوائجهم ، ويرغبون إليه في مهماتهم ؛ لأنه الكامل في أوصافه ، العليم الذي قد كمل في علمه ، الحليم الذي قد كمل في حلمه ، الرحيم الذي [ كمل في رحمته الذي ] وسعت رحمته كل شيء ، وهكذا سائر أوصافه .
{ الله الصمد } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير : الصمد الذي لا جوف له . قال الشعبي : الذي لا يأكل ولا يشرب . وقيل : تفسيره ما بعده .
روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال : الصمد : الذي لم يلد ولم يولد ؛ لأن من يولد سيموت ، ومن يرث يورث منه .
قال أبو وائل شقيق بن سلمة : هو السيد الذي قد انتهى سؤدده ، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد . وعن سعيد بن جبير أيضاً : هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله . وقيل : هو السيد المقصود في الحوائج .
وقال السدي : هو المقصود إليه في الرغائب ، المستغاث به عند المصائب ، تقول العرب : صمدت فلاناً أصمده صمداً -بسكون الميم- إذا قصدته ، والمقصود : صمد ، بفتح الميم .
وقال قتادة : الصمد : الباقي بعد فناء خلقه .
وقال عكرمة : الصمد : الذي ليس فوقه أحد ، وهو قول علي .
" الله الصمد " أي الذي يصمد إليه في الحاجات . كذا روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : الذي يصمد إليه في الحاجات ، كما قال عز وجل : { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون }{[16567]} [ النحل : 53 ] . قال أهل اللغة : الصمد : السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج . قال :
ألا بَكَّرَ الناعِي بخيرِ{[16568]} بني أسد *** بعمرِو بن مسعود وبالسيد الصَّمَدِ
وقال قوم : الصمد : الدائم الباقي ، الذي لم يزل ولا يزال . وقيل : تفسيره ما بعده { لم يلد ولم يولد } . قال أبي بن كعب : الصمد : الذي لا يلد ولا يولد ؛ لأنه ليس شيء إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا يورث . وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان : الصمد : هو السيد الذي قد انتهى سؤدده في أنواع الشرف والسؤدد ، ومنه قول الشاعر :
عَلَوْتُهُ بحسامٍ ثم قلت له *** خذهَا حُذَيْفَ فأنت السَّيِّد الصمدُ
وقال أبو هريرة : إنه المستغني عن كل أحد ، والمحتاج إليه كل أحد . وقال السدي : إنه : المقصود في الرغائب ، والمستعان به في المصائب . وقال الحسين بن الفضل : إنه الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مقاتل : إنه : الكامل الذي لا عيب فيه ، ومنه قول الزبرقان :
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا *** ولا رهينةً إلا سيدٌ صمدُ
وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير : الصمد : المصمت الذي لا جوف له{[16569]} ، قال الشاعر :
شهابُ حروبٍ لا تزال جِيادُه *** عَوَابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيمِ المُصَمَّدَا{[16570]}
قلت : قد أتينا على هذه الأقوال مبينة في الصمد ، في ( كتاب الأسنى ) وأن الصحيح منها ما شهد له الاشتقاق ، وهو القول الأول ، ذكره الخطابي .
وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه ، وجعل النار مقامة ومثواه ، وقرأ " الله الواحد الصمد " في الصلاة ، والناس يستمعون ، فأسقط : " قل هو " ، وزعم أنه ليس من القرآن ، وغير لفظ " أحد " ، وادعى أن هذا الصواب ، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال ، فأبطل معنى الآية ؛ لأن أهل التفسير قالوا : نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى : صف لنا ربك ، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر ؟ فقال الله عز وجل ردا عليهم : { قل هو والله أحد } . ففي " هو " دلالة على موضع الرد ، ومكان الجواب ، فإذا سقط{[16571]} بطل معنى الآية ، وصح الافتراء على الله عز وجل ، والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى الترمذي عن أبي بن كعب : أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأنزل الله عز وجل : { قل هو الله أحد . الله الصمد } . والصمد : الذي لم يلد ولم يولد ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث . { ولم يكن له كفوا أحد }{[16572]} قال : لم يكن له شبيه ولا عدل ، وليس كمثله شيء . وروي عن أبي العالية : إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا : انسب لنا ربك . قال : فأتاه جبريل بهذه السورة { قل هو الله أحد } ، فذكر نحوه ، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب ، وهذا صحيح . قاله الترمذي .
قلت : ففي هذا الحديث إثبات لفظ { قل هو الله أحد } وتفسير الصمد ، وقد تقدم ، وعن عكرمة نحوه .
ولما تم البيان لهويته سبحانه وتعالى على هذا الوجه الذي أنهاه بالأحدية المعلمة بالتنزه عن القسمة والنظير ، وكان بيان القرآن بالغاً أقصى نهايات البيان ، وكان الأحد من النعوت المتوغلة في السلب ، وكانت الشركة تقع في التعبير به في النفي ، وهو بمعناه الحقيقي ، وتقع فيه بالإثبات والسلب على حد سواء ، أو دلالته على الكمال والإضافة أكمل ، وبناه على الاسم الأعظم الذي هو آخر الأسماء الظاهرة ، وأول الأسماء الباطنة ، ولم يقع فيه شركة بوجه دفعاً لكل تعنت ، وإشعاراً بأن لم يسم به لم يستحق الألوهية ، وأخلى الجملة عن عاطف ؛ لأنها كالنتيجة للأولى ، والدليل عليها ، فقال مكاشفاً لنفوس المؤمنين وللعلماء ، معيداً الاسم ، ولم يضمر لئلا يظن تقيد بحيثية غيب أو غيرها : { الله } أي الذي ثبتت إلهيته وأحديته ، لا غيره ، { الصمد } الذي تناهى سؤدده المطلق في كل شيء إلى حد تنقطع دونه الآمال ، فكان بحيث لا يحتاج إلى شيء ، وكل شيء إليه محتاج ، وتنزه عن الجوفية فلم تدن من جنابه بفعل ولا قوة ؛ لأنه تنزه عن القسمة بكل اعتبار مع العظمة التي لا يشببها عظمة ، فكان واحداً بكل اعتبار ، وذلك هو مفهوم الأحدية عبارة وإشارة ، فكان مصموداً إليه في الحوائج ، أي مقصوداً لأجلها ، فهو الموصوف بهذا الاسم على الإطلاق ، وبكل اعتبار ، فكان موجداً للعالم ؛ لأن العالم مركب بدليل المشاهدة ، فكان ممكناً ، فكان محدثه واجباً قديماً ، نفياً للدور والتسلسل المحالين ، وخلقه له بالقدرة والاختيار ؛ لأنه لو كان بالطبع والإيجاب لكان وجوده مع وجوده ؛ لأن العلة لا تنفك عن المعلول ، فيلزم من قدم البارىء عز وجل قدم العالم ، ومن حدوث العالم حدوث البارىء جل وعز ، وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ، وقصر الصمدية عليه ؛ لأن اشتداد الألف لحاجة الشيء إلى غيره ربما كان موجباً لخفاء اختصاصه به ، ولم يقصر الأحدية إما للتنبيه على أن ذلك لشدة ظهوره غني عن التأكيد ، وإما استئلافاً لهم لئلا ينفروا قبل سماع تمام السورة ، على أنه بظهور قصر الصمدية التي أحد معنييها لازم الأحدية ظهر الاختصاص بالأحدية ، قال العلماء رحمهم الله تعالى : والصمد من صمد إليه ، إذا قصده ، وهو كالأحد ، بني على هذا الوزن ؛ لأنه لا تلحقه المضارعة ، ولا تدن منه المشابهة ؛ لأنه اسم خاص ، فهو السيد المصمود إليه ، وهو أيضاً الذي لا جوف له ولا رخاوة بوجه فيه ؛ لأن الأجواف وعاء ، وكل وعاء محتاج إلى موعيه ، يقال : شيء مصمد ، أي صلب ، وحجر صمد : أملس لا يقبل الغبار ، ولا يدخل فيه شيء ، ولا يخرج منه شيء ، قال ابن قتيبة : وهو على هذا الدال فيه مبدله من التاء ، وهو المصمت ، وهو أيضاً العالي الذي تناهى علوه ، تقول العرب لما أشرف من الأرض : صمد بإسكان الميم ، وبناء صمد أي معلى ، فهو على التفسير الأول من الصفات الإضافية ، بمعنى أنه سيد لكل موجود ، والكل محتاجون إليه في ابتداء إيجادهم وفي تربيتهم ، فهم يصمدون إليه في الحوائج ، ويقصدون إليه في جميع الرغائب ، وهو غني على الإطلاق ، وذلك هو اتصافه بصفات الإلهية . قال الإقليشي : فعلى هذا- أي أنه الذي يلجأ إليه ويعتمد عليه لتناهي سؤدده - يتشعب من صفة الصمد صفات السؤدد كلها ، من الجود ، والحلم وغير ذلك ، وإذا قلنا : إن الصمد العالي تشعبت منه صفات التعالي كلها من العزة والقهر والعلو ونحوها ، انتهى .
وقد روى البيهقي رحمة الله تعالى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " الصمد " قال : هو السيد الذي كمل في سؤدده ، والشريف الذي كمل في شرفه ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والغني الذي كمل في غناه ، والجبار الذي كمل في جبروته ، والعالم الذي قد كمل في علمه ، والحكم الذي قد كمل في حكمه ، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله عز وجل .
هذه صفته لا تنبغي إلا له ، ليس له كفؤ ، وليس كمثله شيء ، فسبحان الله الواحد القهار .
وقال أبو العباس ابن تيمية الحنبلي في كتابه " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " : أجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب سبحانه وتعالى بائن من مخلوقاته ، يوصف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل بوصف من صفات الكمال دون صفات النقص ، ونعلم أنه ليس كمثله شيء ، ولا كفؤ له في شيء من صفات الكمال ، كما قال الله تعالى : { قل هو الله أحد الله الصمد } إلى آخرها ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصمد إلى آخر ما مضى عنه ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره : هو الذي لا جوف له ، والأحد الذي لا نظير له .
فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه ، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له ، وقال الحرالي : الصمد - يعني بالسكون - : التوجه بالحاجات إلى مليّ بقضائها لا يحتاج إلى سواه ، فلذلك يكون الصمد سيداً لا يساد ، السيد الله ، انتهى ، وعلى التفسير الثاني : هو من النعوت السلبية ، فهو دال على نفي الماهية التي تعنت بها فرعون لاقتضائها المقومات المستلزمة للحاجة إلى ما به التقويم ، وعلى إثبات الهوية المنزهة عن كل شائبة نقص ، فإن كل ما له ماهية كان له جوف وباطن ، وهو تلك الماهية ، وهو ما لا باطن له ، وهو موجود فلا جهة ولا اعتبار في ذاته إلا الوجود ، فهو واجب الوجود غير قابل للعدم ، وقد علم بهذا أنه جامع لما ذكر فيما قبله ، فإن هذا التفسير الثاني يتشعب منه من الأسماء ما ينظر إلى نفي التركيب كالأحد ونحوه ، وهذان التفسيران الأول والثاني جامعان لجميع ما فسر به ، ولما عسى أن يقال فيه سبحانه من صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال ، فمن كان مصموداً إليه في جميع الحاجات ، ومتعالياً عن كل سمت حدث ، وشائبة نقص ، كان موجداً لكل ما يريد من نفع وضر ، ونافع وضار ، قادراً على حفظ ما يريد ، وكان معلوماً كالشمس أنه لا شريك له ، وأنه هو وحده المستحق للعبادة لاحتياج الكل إليه الاحتياج المطلق ، وغناه عنهم الغنى المطلق ، وتفرده بصفات الكمال والانقطاع عن قرين ، وإلى الصمدانية ينتهي التوجه وهو الإقبال بالكلية ، وهي ترد على الفلاسفة القائلين بتدبير القول ، والصابية القائلين بتدبير النجوم ، وعلى غيرهم من كل من ادعى تدبيراً لغير الله سبحانه وتعالى ، ومن اعتقد صمديته المقتضية لكمال الذات والصفات وشمول التدبير ، أنتج له كمال التفويض والتوكل وهو توحيد الربوبية ، وهذه الأسماء الأربعة مشيرة إلى مقامات السائرين ، ومرامات الحائرين والجائرين ، فالمقربون نظروا إلى الأشياء فوجدوا كل ما سواه سبحانه وتعالى معدوماً بالذات ، فكان ذكرهم " هو " ، وأصحاب اليمين نظروا إلى وجود الممكنات فعينوا مرادهم وميزوا مذكورهم بالجلالة ، وأصحاب الشمال جوزوا الكثرة في الإله فاحتاجوا في تذكيرهم إلى الوصف بالأحدية والصمدية ، وهي رادة على أهل الاتحاد أعظم رد ، فإنهم يقولون : إن الإله هو هذا العالم ، وهو منقسم بالحس فضلاً عما عداه ، ومحتاج أشد احتياج .
ولما انتهى بيان حقيقته سبحانه وتعالى ، وأنه غير مركب أصلاً ، وبين سبحانه بصمديته المستلزمة لوحدانيته أن الكل مستند إليه ومحتاج إليه ، وأنه المعطي لوجود جميع الموجوات ، والمفيض للجود على كل الماهيات فلا يجانس شيئاً ، ولا يجانسه شيء ، ولا يكون له نظير في شيء من ذلك . وكان ربما تعلق بوهم واهم أن تولد غيره عنه يكون من تمام سؤدده المعبر به عن قدرته ، بين أن ذلك محال لاقتضائه الحاجة مما لا تعلق له بالقدرة ؛ لأن القدرة من شأنها أنها لا تتعلق بالمحال ، وهذا محال ؛ لأنه سبحانه صمد ، فكان ذاك بياناً للصمدية في كلا معنييها ، فقال من غير عاطف دالاًّ على انتفاء الجوف الذي هو أحد مدلولي " صمد " مكاشفاً للعقلاء شارحاً ؛ لأنه لا يساويه شيء من نوع يتولد عنه ولا جنس يولد هو عنه ، ولا غير ذلك يوازيه في وجود ولا غيره ، { لم يلد } أي لم يصح ولم ينبغ بوجه من الوجوه أن يقع تولد الغير عنه مرة من المرات ، فكيف بما فوقها ؛ لأن ذلك مستلزم للجوف وهو صمد لا جوف له ؛ لأن الجوف من صفات النفس المستلزم للحاجة وهو مستغن بدوامه في أبديته عمن يخلفه أو يعينه لامتناع الحاجة والفناء عليه ، فهو رد على من قال : الملائكة بنات الله ، أو عزير ، أو المسيح ، أو غيره .