مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ} (2)

قوله تعالى : { الله الصمد } فيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في تفسير : { الصمد } وجهين ( الأول ) : أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج ، قال الشاعر :

ألا بكر الناعي بخير بني أسد *** بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقال أيضا :

علوته بحسامي ثم قلت له *** خذها حذيف فأنت السيد الصمد

والدليل على صحة هذا التفسير ما روى ابن عباس : «أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : ما الصمد ؟ قال عليه السلام هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج » وقال الليث : صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده ( والقول الثاني ) : أن الصمد هو الذي لا جوف له ، ومنه يقال : لسداد القارورة الصماد ، وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة ، وقال قتادة : وعلى هذا التفسير : الدال فيه مبدلة من التاء وهو المصمت ، وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة : الصمد هو الأملس من الحجز الذي لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء ، واعلم أنه قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي جسما فمقدمة هذا الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة وتعالى الله عن ذلك ، فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه ، وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته ، فهذا ما يتعلق بالبحث اللغوي في هذه الآية .

وأما المفسرون فقد نقل عنهم وجوه ، بعضها يليق بالوجه الأول وهو كونه تعالى سيدا مرجوعا إليه في دفع الحاجات ، وهو إشارة إلى الصفات الإضافية ، وبعضها بالوجه الثاني وهو كونه تعالى واجب الوجود في ذاته وفي صفاته ممتنع التغير فيهما وهو إشارة إلى الصفات السلبية وتارة يفسرون الصمد بما يكون جامعا للوجهين .

أما النوع ( الأول ) : فذكروا فيه وجوها : ( الأول ) الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه سيدا مرجوعا إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك ( الثاني ) : الصمد هو الحليم لأن كونه سيدا يقتضي الحلم والكرم ( الثالث ) : وهو قول ابن مسعود والضحاك الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده ( الرابع ) : قال الأصم : الصمد هو الخالق للأشياء ، وذلك لأن كونه سيدا يقتضي ذلك ( الخامس ) قال السدي : الصمد هو المقصود في الرغائب ، المستغاث به عند المصائب ( السادس ) : قال الحسين بن الفضل البجلي : الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ( السابع ) : أنه السيد المعظم ( الثامن ) : أنه الفرد الماجد لا يقضي في أمر دونه .

وأما النوع ( الثاني ) : وهو الإشارة إلى الصفات السلبية فذكروا فيه وجوها : ( الأول ) الصمد هو الغني على ما قال : { وهو الغني الحميد } ( الثاني ) : الصمد الذي ليس فوقه أحد لقوله : { وهو القاهر فوق عباده } ولا يخاف من فوقه ، ولا يرجو من دونه ترفع الحوائج إليه ( الثالث ) قال قتادة : لا يأكل ولا يشرب { وهو يطعم ولا يطعم } ( الرابع ) قال قتادة : الباقي بعد فناء خلقه : { كل من عليها فان } ( الخامس ) قال الحسن البصري : الذي لم يزل ولا يزال ، ولا يجوز عليه الزوال كان ولا مكان ، ولا أين ولا أوان ، ولا عرش ولا كرسي ، ولا جني ولا إنسي وهو الآن كما كان ( السادس ) : قال أبي بن كعب : الذي لا يموت ولا يورث وله ميراث السموات والأرض ( السابع ) قال يمان وأبو مالك : الذي لا ينام ولا يسهو ( الثامن ) قال ابن كيسان : هو الذي لا يوصف بصفة أحد ( التاسع ) قال مقاتل بن حبان : هو الذي لا عيب فيه ( العاشر ) قال الربيع بن أنس : هو الذي لا تعتريه الآفات ( الحادي عشر ) قال سعيد بن جبير : إنه الكامل في جميع صفاته ، وفي جميع أفعاله ( الثاني عشر ) قال جعفر الصادق : إنه الذي يغلب ولا يغلب ( الثالث عشر ) قال أبو هريرة : إنه المستغني عن كل أحد ( الرابع عشر ) قال أبو بكر الوراق : إنه الذي أيس الخلائق من الاطلاع على كيفيته ( الخامس عشر ) هو الذي لا تدركه الأبصار ( السادس عشر ) : قال أبو العالية ومحمد القرظي : هو الذي لم يلد ولم يولد ، لأنه ليس شيء يلد إلا سيورث ، ولا شيء يولد إلا وسيموت ( السابع عشر ) قال ابن عباس : إنه الكبير الذي ليس فوقه أحد ( الثامن عشر ) أنه المنزه عن قبول النقصانات والزيادات ، وعن أن يكون موردا للتغيرات والتبدلات ، وعن إحاطة الأزمنة والأمكنة والآنات والجهات .

وأما ( الوجه الثالث ) : وهو أن يحمل لفظ الصمد على الكل وهو محتمل ، لأنه بحسب دلالته على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب ، وبحسب دلالته على كونه مبدأ للكل يدل على جميع النعوت الإلهية .

المسألة الثانية : قوله { الله الصمد } يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله ، وإذا كان الصمد مفسرا بالمصمود إليه في الحوائج ، أو بما لا يقبل التغير في ذاته لذم أن لا يكون في الوجود موجود هكذا سوى الله تعالى ، فهذه الآية تدل على أنه لا إله سوى الواحد ، فقوله : { الله أحد } إشارة إلى كونه واحدا ، بمعنى أنه ليس في ذاته تركيب ولا تأليف بوجه من الوجوه ، وقوله : { الله الصمد } إشارة إلى كونه واحدا ، بمعنى نفي الشركاء والأنداد والأضداد . وبقي في الآية سؤالان :

السؤال الأول : لم جاء { أحد } منكرا ، وجاء { الصمد } معرفا ؟ ( الجواب ) : الغالب على أكثر أوهام الخلق أن كل موجود محسوس ، وثبت أن كل محسوس فهو منقسم ، فإذا ما لا يكون منقسما لا يكون خاطرا بيان أكثر الخلق ، وأما الصمد فهو الذي يكون مصمودا إليه في الحوائج ، وهذا كان معلوما للعرب بل لأكثر الخلق على ما قال : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } وإذا كانت الأحدية مجهولة مستنكرة عند أكثر الخلق ، وكانت الصمدية معلومة الثبوت عند جمهور الخلق ، لا جرم جاء لفظ أحد على سبيل التنكير ولفظ الصمد على سبيل التعريف .

السؤال الثاني : ما الفائدة في تكرير لفظة الله في قوله : { الله أحد الله الصمد } ؟ ( الجواب ) : لو لم تكرر هذه اللفظة لوجب في لفظ أحد وصمد أن يردا ، إما نكرتين أو معرفتين ، وقد بينا أن ذلك غير جائز ، فلا جرم كررت هذه اللفظة حتى يذكر لفظ أحد منكرا ولفظ الصمد معرفا .