صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

{ لا يسخر قوم من قوم } لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا ، ولا يهزأ بعضهم من بعض ؛ من السخرية ، وهي احتقار الإنسان قولا أو فعلا بحضرته على وجه يضحك . يقال : سخرت منه سخرا – من باب تعب – ومسخرا وسخرا – بضمتين – هزأت به . والاسم السخرية . روي أنها نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال وعمار وصهيب وأمثالهم لما رأوا من رثاثة حالهم . { ولا تلمزوا أنفسكم } لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة ، سواء أكان على وجه يضحك أم لا ، وسواء أكان بحضرته أم لا . واللمز : العيب . وفعله من باب ضرب ونصر . وعطف هذا النهى على ما قبله من عطف العام على الخاص . { ولا تنابزوا بالألقاب } لا يدع بعضكم بعضا بما يستكره من الألقاب . والتنابز : التعاير والتداعي بالألقاب . يقال : نبزه ينبزه ، لقبه كنبزه : والنبز – بالتحريك - : اللقب ، محبوبا كان أو مكروها . وخصّ عرفا بالمكروه . { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي بئس الذكر للمؤمنين بسبب ارتكاب واحد من هذه الأمور الثلاثة القبيحة – أن يذكروا بالفسوق بعد اتصافهم بالإيمان .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

{ 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

وهذا أيضًا ، من حقوق المؤمنين ، بعضهم على بعض ، أن { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ } بكل كلام ، وقول ، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم ، فإن ذلك حرام ، لا يجوز ، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه ، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر ، كما هو{[801]}  الغالب والواقع ، فإن السخرية ، لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق ، متحل بكل خلق ذميم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " بحسب امرئ من الشر ، أن يحقر أخاه المسلم "

ثم قال : { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يعب بعضكم على بعض ، واللمز : بالقول ، والهمز : بالفعل ، وكلاهما منهي عنه حرام ، متوعد عليه بالنار .

كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } الآية ، وسمي الأخ المؤمن{[802]}  نفسًا لأخيه ، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد ، ولأنه إذا همز غيره ، أوجب للغير أن يهمزه ، فيكون هو المتسبب لذلك .

{ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } أي : لا يعير أحدكم أخاه ، ويلقبه بلقب ذم يكره أن يطلق عليه{[803]}  وهذا هو التنابز ، وأما الألقاب غير المذمومة ، فلا تدخل في هذا .

{ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } أي : بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه ، وما تقتضيه ، بالإعراض عن أوامره ونواهيه ، باسم الفسوق والعصيان ، الذي هو التنابز بالألقاب .

{ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فهذا [ هو ] الواجب على العبد ، أن يتوب إلى الله تعالى ، ويخرج من حق أخيه المسلم ، باستحلاله ، والاستغفار ، والمدح له مقابلة [ على ] ذمه .

{ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فالناس قسمان : ظالم لنفسه غير تائب ، وتائب مفلح ، ولا ثم قسم ثالث غيرهما .


[801]:- في ب: وهو الغالب.
[802]:- في ب: المسلم.
[803]:- في ب: بلقب يكره أن يقال فيه.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم " قيل عند الله . وقيل " خيرا منهم " أي معتقدا وأسلم باطنا . والسخرية الاستهزاء . سخرت منه أسخر سخرا ( بالتحريك ) ومسخرا وسخرا ( بالضم ) . وحكى أبو زيد سخرت به ، وهو أردأ اللغتين . وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وهزئت به ، كل يقال . والاسم السخرية والسُّخْرِي ، وقرئ بهما قوله تعالى : " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " [ الزخرف : 32 ] وقد تقدم{[14093]} . وفلان سخرة ، يتسخر في العمل . يقال : خادم سخرة . ورجل سخرة أيضا يسخر منه . وسخرة ( بفتح الخاء ) يسخر من الناس .

الثانية- واختلف في سبب نزولها ، فقال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر ، فإذا سبقوه إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه ، فربض كل رجل منهم بمجلسه ، وعضوا{[14094]} فيه فلا يكاد يوسع أحد لأحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما ، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطي رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له : تفسح . فقال له الرجل : قد وجدت مجلسا فاجلس فجلس ثابت من خلفه مغضبا ، ثم قال : من هذا ؟ قالوا فلان ، فقال ثابت : ابن فلانة يعيره بها ، يعني أما له في الجاهلية ، فاستحيا الرجل ، فنزلت . وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول " السورة " استهزؤوا بفقراء الصحابة ، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم . وقال مجاهد : هو سخرية الغني من الفقير . وقال ابن زيد : لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله ، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة . وقيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما ، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة . فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت .

وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق{[14095]} في محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله ، والاستهزاء بمن عظمه الله . ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع . وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا . و " قوم " في اللغة للمذكرين خاصة . قال زهير :

وما أدري وسوف إِخَالُ أدرِي *** أقومُ آلُ حصنٍ أم نساءُ

وسموا قوما لأنهم يقومون مع داعيهم في الشدائد . وقيل : إنه جمع قائم ، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين . وقد يدخل في القوم النساء مجازا ، وقد مضى في " البقرة " {[14096]} بيانه .

الثالثة-قوله تعالى : " ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر . وقد قال الله تعالى : " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " {[14097]} [ نوج : 1 ] فشمل الجميع . قال المفسرون : نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة ، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض ، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب ، فهذه كانت سخريتهما . وقال أنس وابن زيد : نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، عيرن أم سلمة بالقصر . وقيل : نزلت في عائشة ، أشارت بيدها إلى أم سلمة ، يا نبي الله إنها لقصيرة . وقال عكرمة عن ابن عباس : إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن النساء يعيرنني ، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد ) . فأنزل الله هذه الآية .

الرابعة- في صحيح الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا{[14098]} ، فقال : [ ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا ] . قالت فقلت : يا رسول الله ، إن صفية امرأة - وقالت بيدها{[14099]} - هكذا ، يعني أنها قصيرة . فقال : [ لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج ] . وفي البخاري عن عبد الله بن زمعة قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس . وقال : [ لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها ] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ] . وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال . ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه . فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية . ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة . بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، لا تلك الذات المسيئة . فتدبر هذا ، فإنه نظر دقيق ، وبالله التوفيق .

فيه ثلاث مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " ولا تلمزوا أنفسكم " اللمز : العيب ، وقد مضى في " التوبة " عند قوله تعالى : " ومنهم من يلمزك في الصدقات " {[14100]} [ التوبة : 58 ] . وقال الطبري : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة . والهمز لا يكون إلا باللسان . وهذه الآية مثل قوله تعالى : " ولا تقتلوا أنفسكم " {[14101]} [ النساء : 29 ] أي لا يقتل بعضكم بعضا ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه . وكقوله تعالى : " فسلموا على أنفسكم " {[14102]} [ النور : 61 ] يعني يسلم بعضكم على بعض . والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض . وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضا . وقرئ : " ولا تُلمزوا " بالضم . وفي قوله : " أنفسكم " تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه ، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه ، قال صلى الله عليه وسلم : [ المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ] . وقال بكر بن عبد الله المزني : إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا ، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب . وقال صلى الله عليه وسلم : [ يبصر أحدكم القذاة{[14103]} في عين أخيه ويدع الجذع في عينه ] وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره . قال الشاعر :

المرء إن كان عاقلا وَرِعًا *** أشغلَهُ عن عيوبِهِ ورعُه

كما السقيم المريض يشغله *** عن وجع الناس كلهم وجعه

وقال آخر :

لا تكشفن{[14104]} مساوي الناس ما ستروا *** فيهتك الله سترا عن مساويكا

واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكِرُوا *** ولا تعب أحدا منهم بما فِيكَا

الثانية- قوله تعالى : " ولا تنابزوا بالألقاب " النبز ( بالتحريك ) اللقب ، والجمع الأنباز . والنبز ( بالتسكين ) المصدر ، تقول : نبزه ينبزه نبزا ، أي لقبه . وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم ، شدد للكثرة . ويقال النَّبَزُ والنَّزَبُ لقب السوء . وتنابزوا بالألقاب : أي لقب بعضهم بعضا . وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره ، فنزلت هذه الآية : " ولا تنابزوا بالألقاب " . قال هذا حديث حسن . وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري . وأبو زيد{[14105]} سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة . وفي مصنف أبي داود عنه قال : فينا نزلت هذه الآية ، في بني سلمة " ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون : مه يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا الاسم ، فنزلت هذه الآية : " ولا تنابزوا بالألقاب " . فهذا قول . وقول ثان - قال الحسن ومجاهد : كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني ، فنزلت . وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة . وقال قتادة : هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق ، وقاله مجاهد والحسن أيضا . " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته ، قاله ابن زيد . وقيل : المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق . وفي الصحيح [ من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ] . فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز . وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه ] يعني بالتقوى ، ونزلت : " ولا تنابزوا بالألقاب " . وقال ابن عباس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب ، فنهى الله أن يعير بما سلف . يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة ] .

الثالثة-وقع من ذلك مستثنى من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه ، فجوزته الأمة واتفق على قول أهل الملة . قال ابن العربي : وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح{[14106]} جزرة ، لأنه صحف " خرزة " فلقب بها . وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي : مُطَيَّن ، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين ، ولا أراه سائغا في الدين . وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول : لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل ، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين . والذي يضبط هذا كله : أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية . والله أعلم .

قلت : وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في ( كتاب الأدب ) من الجامع الصحيح . في ( باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل ) قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ما يقول ذو اليدين ] قال أبو عبد الله بن خويز منداد : تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره ، ويجوز تلقيبه بما يحب ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق ، وأبا بكر بالصديق ، وعثمان بذي النورين ، وخزيمة بذي الشهادتين ، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين ، في أشباه ذلك . الزمخشري : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه ] . ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن ، قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكُنى فإنها منبهة . ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله . وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب . ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير . قال الماوردي : فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره . وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب .

قلت : فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير . وقد سئل عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول : حُميد الطويل ، وسليمان الأعمش ، وحُميد الأعرج ، ومروان الأصغر ، فقال : إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال : رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر . في رواية الأصيلع .

قوله تعالى : " ومن لم يتب " أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون . " فأولئك هم الظالمون " لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي .


[14093]:آية 32 سورة الزخرف. راجع ص 83 من هذا الجزء. و ج 12 ص 154 و ج 15 ص 225.
[14094]:عض فلان الشيء: لزمه واستمسك به.
[14095]:رجل لبق ولبيق: حاذق رفيق بكل عمل.
[14096]:راجع ج 1 ص 400 طبعة ثانية أو ثالثة.
[14097]:أول سورة نوح.
[14098]:حكيت فلانا وحاكيته: فعلت مثل فعله.
[14099]:العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، على المجاز والاتساع.
[14100]:راجع ج 8 ص 166.
[14101]:آية 29 سورة النساء.
[14102]:آية 61 سورة النور.
[14103]:القذاة: هو ما يقع في العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.
[14104]:في أدب الدنيا والدين:" لا تلمس من مساوي".
[14105]:أبو زيد من رجال سند هذا الحديث.
[14106]:هو صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي البغدادي الحافظ. روى الخطيب البغدادي بسنده... سمعت صالحا- يعني جزرة- يقول: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فقرأت أنا عليه: حدثكم جرير بن عثمان قال: كان لأبي أمامة خرزة يرقي بها المريض، فصحفت "الخرزة" فقلت: كان لأبي أمامة خرزة" وإنما هي "خرزة". راجع تاريخ بغداد في المجلد التاسع ص 322 في ترجمة صالح هذا.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسۡخَرۡ قَوۡمٞ مِّن قَوۡمٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُونُواْ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا نِسَآءٞ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰٓ أَن يَكُنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهُنَّۖ وَلَا تَلۡمِزُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَلَا تَنَابَزُواْ بِٱلۡأَلۡقَٰبِۖ بِئۡسَ ٱلِٱسۡمُ ٱلۡفُسُوقُ بَعۡدَ ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن لَّمۡ يَتُبۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (11)

ولما نهى عن الإسراع بالإيقاع بمجرد سماع ما يوجب النزاع ، وختم بما ترجى به الرحمة ، وكان ربما كان الخبر الذي أمر سبحانه بتبينه{[60835]} صريحاً ، نهى عن موجبات الشر التي يخبر بها فتكون سبباً للضغائن التي يتسبب عنها الشر الذي هو سبب للنقمة رحمة لعباد الله وتوقعاً للرحمة منه ، فقال على سبيل النتيجة من ذلك ذاكراً ما في القسم الرابع من الآداب والمنافع من وجوب ترك أذى المؤمنين في حضورهم و{[60836]}الإزراء بحالهم المذهب لسرورهم الجالب لشرورهم : { يا أيها الذين آمنوا } أي أوقعوا الإقرار بالتصديق { لا يسخر } أي يهزأ ويستذل{[60837]} .

ولما كانت السخرية تكون بحضرة ناس ، قال معبراً بما يفهم أن من شارك أو رضي أو سكت وهو قادر فهو{[60838]} ساخر مشارك للقائل{[60839]} : { قوم } أي ناس فيهم قوة المحاولة ، وفي التعبير بذلك هز إلى قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده-{[60840]} من النقائص شكراً لما أعطاه الله من القوة : { من قوم } فإن ذلك يوجب الشر لأن أضعف الناس إذا حرك للانتقاص قوي بما يثور عنده من حظ النفس .

ولما كان الذي يقتضيه الرأي الأصيل أنه لا يستذل الإنسان إلا من أمن أن يصير في وقت من الأوقات أقوى منه في الدنيا أوفي-{[60841]} الآخرة ، علل بقوله : { عسى } أي لأنه جدير وخليق لهم { أن يكونوا } أي المستهزأ بهم { خيراً منهم } فينقلب الأمر عليهم{[60842]} ويكون لهم سوء العاقبة ، قال ابن-{[60843]} مسعود رضي الله عنه{[60844]} : البلاء موكل بالقول ولو-{[60845]} سخرت من كلب خشيت أن-{[60846]} أحول كلباً ؛ وقال القشيري : ما استضعف{[60847]} أحد أحداً إلا سلط{[60848]} عليه ، ولا ينبغي أن تعتبر بظاهر أحوال الناس ، فإن في-{[60849]} الزوايا خبايا ، والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة ، كذا في الخبر

" كم من أشعث أغبر ذي طمرين{[60850]} لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " .

ولما كان إطلاق القوم لمن كان{[60851]} فيه أهلية المقاومة وهم الرجال ، قال معبراً ما هو من النسوة بفتح النون أن ترك العمل : { ولا نساء من نساء } ثم علل النهي بقوله : { عسى } أي{[60852]} ينبغي {[60853]}أن يخفن{[60854]} من { أن يكن } المسخور بهن { خيراً منهن } أي الساخرات .

ولما كانت السخرية تتضمن العيب ، ولا يصرح فيها ، وكان اللمز العيب نفسه ، رقي الأمر إليه فقال : { ولا تلمزوا } أي تعيبوا على وجه الخفية { أنفسكم } بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها ، فكيف إذا كان على وجه الظهور ، فإنكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة ، أو يعمل الإنسان ما يعاب{[60855]} به ، فيكون قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن{[60856]} يبحث عن عيوبة فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه { ولا تنابزوا } أي ينبز بعضكم بعضاً ، أي يدعو على وجه التغير والتسفل { بالألقاب } بأن يدعو المرء صاحبه بلقب يسوءه سواء كان هو المخترع له أولاً ، وأما ألقاب المدح فنعم هي كالصديق والفاروق .

ولما كان الإيمان قيداً لأوابد العصيان ، وكان النبز والسخرية قطعاً لذلك القيد ، علل بما يؤذن بأنه فسق ، معبراً بالكلمة الجامعة لجميع المذامّ تنفيراً{[60857]} من ذلك فقال : { بئس الاسم الفسوق } أي الخروج من ربقة الدين { بعد الإيمان } ترك الجارّ إيذاناً بأن من وقع في ذلك أوشك أن يلازمه فيستغرق زمانه فيه فإن النفس عشاقة للنقائص ، ولا{[60858]} سيما ما فيه استعلاء ، فمن فعل ذلك فقد رضي لنفسه أو يوسم بالفسق بعد أن كان موصوفاً بالإيمان .

ولما كان التقدير : فمن تاب فأولئك هم الراشدون ، وكان المقام بالتحذير أليق ، عطف عليه قوله : { ومن لم يتب } أي يرجع عما نهى الله عنه ، فخفف عن نفسه ما كان شدد عليها { فأولئك } أي البعداء من الله { هم } أي خاصة { الظالمون * } أي العريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها{[60859]} .


[60835]:من مد، وفي الأصل: تنبيه.
[60836]:من مد، وفي الأصل: من.
[60837]:من مد، وفي الأصل: يذل.
[60838]:من مد، وفي الأصل: وهو.
[60839]:زيد في الأصل: قال، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[60840]:زيد من مد.
[60841]:زيد من مد.
[60842]:من مد، وفي الأصل: عليه.
[60843]:زيد من مد.
[60844]:راجع كتاب الزهد لابن المبارك ص207.
[60845]:زيد من مد.
[60846]:زيد من مد.
[60847]:من مد، وفي الأصل: استغفر.
[60848]:زيد في الأصل: الله، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[60849]:زيد من مد.
[60850]:زيد من مد، وفي الأصل: طريق.
[60851]:سقط من مد.
[60852]:من مد، وفي الأصل: أن.
[60853]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[60854]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[60855]:من مد، وفي الأصل: يعاقب.
[60856]:من مد، وفي الأصل: عن أن.
[60857]:من مد، وفي الأصل: تتعيرا-كذا.
[60858]:من مد، وفي الأصل: لما كان.
[60859]:من مد، وفي الأصل: مواضع.