وقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } هو على الإضمار ، والله أعلم ؛ كأنه قال : حرم عليكم أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير إلى آخر ما ذكر . ألا ترى أنه قال : يجوز الانتفاع بصوف الميتة وبعظمها . دل أنه على الإضمار : أكل . وأما الانتفاع بجلدها فلا يجوز إلا بعد الدباغ لأن الجلد ربما يشوى مع اللحم ، فيؤكل ، فهو حرام كاللحم ، إلا أن يدبغ .
ثم في الآية دليل الامتحان من وجهين :
أحدهما : إباحة التناول من جوهر وحظر : امتحن بحرمة الخنزير والدم ، لم يحله بسبب ولا بغير سبب ، وامتحن بحل الآخر بسبب ، وحرم بسبب .
والثاني : امتحن بسبب حل لنفر الطبع عنه لأن كل روح يتألم بالذبح واستخراج الروح منه ، وجعل طبيعة كل أحد مما ينفر عنه لما به لتطيب أنفسهم بذلك .
ثم جعل ما يخرج من الأرض كله حلالا بلا سبب يكتسبون إلا ما لا يقدرون على التناول منه لخوف الهلاك لأنه موات ، لا تنفر الطباع عنه .
ثم جعل أسباب الحل أسبابا يكتسبون مما لا يعمل في استخراج ذلك الدم المحرم منه حل أكله . وإذا لم يعمل في استخراج ذلك الدم ، فهلك فيه ، أفسده لأنه تلف فيه ما هو محرم ، فأفسده ، فاستخراج ذلك الدم مما يطيب ذلك ، ويمنع عن الفساد إلا في طول الوقت . والذي هلك فيه الدم يفسد في قليل الوقت .
وقوله تعالى : { وما أهل لغير الله به } قال الكسائي : { وما أهل لغير الله به } أي ذكر وسمي عيه غير اسم الله مشتقة من استهلال الصبي ، ومنه إهلال الهلال [ وإهلال المهل ] بالحج إذا لبى .
قال قتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها . والكافر في الحقيقة يهل لغير الله لأنه لا يعرف الله حقيقة . لكنه أجاز ذبائح الكتابي لأنه يسمي عليه اسم الله تعالى { والموقوذة } كانوا يضربون بالعصا حتى إذا ماتت ثم أكلوها { والمتردية } كانت [ تردت في بئر أو من جبل ، فماتت ] { والنطيحة } كان الكبشان يتناطحان ، فيموت أحدهما ، فيأكلونه { وما أكل السع إلا ما ذكيتم } . كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع من هذا ، وأكل منه ، أكلوا ما بقي . فقال الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } .
ثم روي عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : { والمنخنقة والموقوذة } فما أدركت من هذا كله يتحرك بالذنب ، أو يطرق بالعين ، فاذبح ، واذكر اسم الله عليه ، فهو حلال .
وروي عن علي رضي الله عنه [ أنه ] قال : إذا طرقت بعينها ، أو ركضت برجلها ، أو حركت ذنبها ، [ فذبحها ، فهو تذكية ] وكذلك روي عن ابن الزبير أنه سمع عبيد بن عمير رضي الله عنه يقول : ذلك . وكأنه روي مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك .
وهذا ، والله أعلم ، إذا خنقها ، أو وقذها ، يغمى عليها . فإذا ذبحها ، فحركت ذنبها ، أو [ طرفت بعينها ] ، أو ركضت برجلها ، أفاقت ، فاستدل بذلك على حياتها . وليس هذا كشاة ينزع الذئب أو السبع ما في بطنها ، أو صارت بحال لا تتحامل [ فاستدل بذلك أنها حية ] وإن تحركت ، أو طرقت [ بعينها ] فإنها لا تؤكل .
وأصله أن كل ما لو [ قطعت عروقها ] ، فتركت ، فماتت ، تكون ميتة . فإذا أدركت في تلك الحال ، فذكيت كانت ذكية ، وكل ما لو [ صارت بحال ، وماتت كما ] كانت ذكية . فإذا أدركت في تلك الحال ، [ فذكيت ما ] كانت ميتة . والمتردية الممتنعة عن الذبح . الذبح إذا ذبح من غير الذبح يجوز أكله .
«روي عن [ رافع بن خديج أنه ] قال : أصبنا إبلا وغنما ، فند منها بعير ، فرماه رجل بسهم ، فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش . فإذا كان عليكم شيء منها فاصنعوا به هكذا » . [ البخاري : 3075 ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في البعير يتردى في البئر : إذا لم يقدر على منحره فهو بمنزلة الصيد ، ينحر من حيث أدرك .
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بعير تردى في بئر ، فصار أعلاه أسفله ؟ فقال : ( قطعوه أعضاء ، وكلوه ) . وعن ابن عمر رضي الله عنه روي أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : هل تكون الذكاء إلا في الحلق واللبة ؟ فقال : «أما إنك لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ، وإذا ذكي بغير السكين من نحو المروة والقصبة مما يقطع يجوز » . [ أبو داوود : 2825 ] .
«وروي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : يا رسول الله أرسل كلبي ، فيأخذ الصيد ، وليس معي ما أذكيه [ به ] فأذبحه بالمروة أو القصبة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمر الدم بما شئت ، واذكر اسم الله عليه » [ أبو داوود : 2824 ] .
وكذلك روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى أن رجلا أشاط دم جزور بجدل ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : «اذبح بكل ما أفرى الأوداج ، وأهراق الدم ، ما خلا السن والظفر » [ الموطأ489 : 2 ] .
وإلى هذا يذهب أصحابنا ، رحمهم الله ، في ذلك ، ويرون كل ما أنهر الدم من حجر أو مروة أو نحو ذلك مذكى ، ويؤكل ، ويحملون قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم : «إلا السن والظفر » على أنهما إذا كانا غير منزوعين لأن ذلك خنق ، وليس بذبح . تفسير ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما حين قال : خنق . وفي الخبر بيان [ الآية ] لأنه قال : «كل ما أنهر الدم ، وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر فإنهما مدى الحبشة » [ بنحوه البخاري : 3075 ] وهم إنما كانوا يذبحون بسن أو ظفر غير منزوعة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وما ذبح على النصب } أي للنصب . قيل : كانوا يذبحون للأوثان والأصنام التي يعبدونها ؛ يتقربون بذلك إليها كما كان أهل الإسلام يتقربون بالذبائح ، يذبحونها ، إلى الله ، فحرم الله عز وجل ما كانوا يذبحون للنصب { وما أهل لغير الله به } لما ذكرنا أن الأمر به خرج مخرج قبول النعمة والشكر له في ما أنعم من عظيم النعم . فإذا أهلوا به لغير الله أي لغير وجه الله لم يقبلوا نعمة ، ووجهوا الشكر إلى غيره ، فحرم لذلك ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } قيل : سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها . وقيل : الأزلام هي القداح ، كانوا يقتسمون بها الأمور . وكان الرجل إذا أراد سفرا /123-أ/ أخذ قدحا ، فقال : هذا يأمره بالخروج ، [ فإن هو خرج ] فهو مصيب في سفره خيرا . ويأخذ قدحا آخر ، فيقول : هذا يأمره بالمكث ؛ فإن هو خرج فليس بمصيب خيرا في سفره . والمنيح بينهما . فنهى الله تعالى عن ذلك ، وأنبأ أن ذلك فسق بقوله تعالى : { ذلكم فسق } .
وإن الحسن [ أنه ] قال : كانوا يعمدوه إلى القداح ، فيكتبون على أحدها : مرني ، وعلى الآخر : انهني ، ثم يجيلونها إذا أرادوا الأمر . فإن خرج [ الذي ] عليه : مرني مضى في وجهه ، وإن خرج الذي عيه انهني لم يخرج .
قال أبو بكر الكيساني : إن ي النهي عن العمل بالأزلام دليل النهي عن العمل بالنجوم . فإذا نهي عن العمل بقول [ المستقسمين ينهى ] أيضا عن العمل بقول المنجمة لأنهم حين ما يقول أولئك ، ويعملون به . لكن المنجمة ليسوا يقولون : إن نجم كذا يأمركم كذا ، ونجم كذا ينهى عن كذا على ما كان يفعل أولئك .
ويجوز أن يكون الله عز وجل [ قد جعل ] في النجوم أعلام ومعاني يدركون بها ، ويستخرجون أشياء تحتمل ذلك ، وتكن على ما يستخرج أهل الاجتهاد بالاجتهاد أشياء من عنى النصوص وأحكاما لم تذكر في المنصوص . فعلى ذلك المنجمة يجوز أن يستخرجوا أشياء من النجوم بدلائل ومعان تكون في النجوم ، ولا عيب عليهم في ذلك ، ولا لائمة . وإنما اللائمة عليهم في ما يحكمون على الله ، ويشهدون عليه .
قال القتبي : الأزلام القداح ، واحدها زلم وزُلم . والاستقسام بها أن تضرب . فأخذ الاستقسام من القسم ، وهو النصيب ، كأنه طلب النصيب .
قال أبو عوسجة : استقسمت أي ضربت بالقداح ، قال : كأنه من القسم . وقال أبو عبيدة : إنما سمي استقساما لأنه كانوا يطلبون قسم الرزق وطلب الحوائج بها ، فكانوا يسألونها أن تقسم لهم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ذلكم فسق } يحتمل قوله : { فسق } أي العمل بالأزلام والشهادة على الله أمر ، فذلك فسق . وعلى هذا من يستجيز العمل بالقرعة ، لأنه يقول بقرع ؛ فمن خرجت قرعته يحكم له ، فإنما يحكم له بأمر القرعة ، كأن القرعة تأمره بالحكم بهذا لهذا ، وتنهاه عن الحكم بهذا لهذا ، فهو بالأزلام والقداح التي نهى الله عن العمل بذلك أشبه ، وبها أمثل من غيره .
ويحتمل قوله تعالى : { ذلكم فسق } أي التناول مما ذكر من المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب وما ذكر في أول السورة من الاصطياد في الإحرام والتناول منه ، ذلك كله فسق ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما .
وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } إنهم [ كانوا ] يطمعون دخول أهل الإسلام في دينهم وعودهم ، فأيأسهم الله سبحانه وتعالى من ذلك ، فقال : { اليوم يئس الذين كفروا من } ترككم دين الإسلام { فلا تخشوهم واخشوني } أمنهم من ذلك .
وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عيكم نعمتي } الآية . قال أبو عبيد : كان دينهم إلى ذلك اليوم ناقصا ، فحينئذ كمل دينهم . فعلى زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إلى دين ناقص ، ومن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عليهم ماتوا على دين ناقص ، ويحشرون يوم القيامة على دين ناقص ، وأي قول أوحش من هذا وأسمج ؟
وقال آخر من أصحابه : كان الدين كاملا إلى ذلك الوقت ، فلما بعث الله بالفرائض ، وافترض عليهم ، صار الدين ناقصا إلى أن يؤدوا الفرائض وما اقترض عليهم . فعند ذلك يكمل . فهذا القول أيضا في الوحشة والسماجة والقبح مثل الأول ، ويقال لأبي عبيد : قل أيضا : إنه لم يكن رضي لهم بالإسلام قبل ذلك رضا .
والأصل في تأويل الآية [ في ] وجوه :
أحدهما : { اليوم أكملت لكم دينكم } أي برسوله وببعثه { أكملت لكم دينكم } وبه أتممت { عليكم نعمتي } .
[ والثاني ] : قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } أي اليوم أظهرت لكم دينكم ، ولم يكن قبل ذلك ظاهرا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين » [ الطبراني في الكبير : 11056 ] وقال : «ألا لا يحجن بعد العام مشرك » [ البخاري : 369 ] وذلك لظهوره ولغلبة أهل الإسلام عليهم وأنه لم يكن هذا قبل ذلك .
[ والثالث ] : قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } لما أمنوا من العدو والعود إلى دين أولئك وإياس أولئك من رجوعهم إلى دين الكفر . وأي نعمة أتم وأكمل من الأمن من العدو ؟ ويقول الرجل : اليوم تم ملكي إذا أهلك عدوه ، ولأمنه من عدوه ، وإن كان لم يوصف ملكه قبل ذلك بالنقصان . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .
[ والرابع : قوله ] : { اليوم أكلمت لكم دينكم } أي أمر دينكم بما أمروا وشرائع ، لم يكونوا أمروا بها قبل ذلك . وهذا جائز .
وقوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام دينا } أي أكرمتكم بالدين المرضي ، وهو الإسلام ، كقوله تعالى : { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ] .
وقوله تعالى : { غير متجانف لإثم } قال بعضهم : { غير متجانف لإثم } أي متعمد لإثم ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما . وقال الكيساني : { غير متجانف } غير متمايل ، والجنف الميل . وكذلك قال القتبي . وقال أبو عوسجة أيضا : الجنف الميل .
ثم قوله تعالى : { غير متجانف لإثم } يحتمل [ وجوها :
أحدهما ] : قيل : { غير متجانف } غير مستحل أكل الميتة في حال الاضطرار وما حرم عليه التناول من الصيد وقيل : غير متلذذ ولا مشته ؛ يتناول على التكره منه لا على التلذذ والشهوة . وقيل أيضا : إنه لا يتناول إلا في حال الاضطرار كقوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 والأنعام : 145 والنحل : 115 ] وتفسير قوله تعالى : { اضطر } هذا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } أي من رحمته : أي جعل لكم التناول من المحرم ، ورخص لكم ؛ إذ له أن يترككم تموتون جوعا كقوله تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الآية [ النساء : 66 ] .