تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

وقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } هو على الإضمار ، والله أعلم ؛ كأنه قال : حرم عليكم أكل الميتة والدم وأكل لحم الخنزير إلى آخر ما ذكر . ألا ترى أنه قال : يجوز الانتفاع بصوف الميتة وبعظمها . دل أنه على الإضمار : أكل . وأما الانتفاع بجلدها فلا يجوز إلا بعد الدباغ لأن الجلد ربما يشوى مع اللحم ، فيؤكل ، فهو حرام كاللحم ، إلا أن يدبغ .

ثم في الآية دليل الامتحان من وجهين :

أحدهما : إباحة التناول من جوهر وحظر : امتحن بحرمة الخنزير والدم ، لم يحله بسبب ولا بغير سبب ، وامتحن بحل الآخر بسبب ، وحرم بسبب .

والثاني : امتحن بسبب حل لنفر الطبع عنه لأن كل روح يتألم بالذبح واستخراج الروح منه ، وجعل طبيعة كل أحد مما ينفر عنه لما به لتطيب أنفسهم بذلك .

ثم جعل ما يخرج من الأرض كله حلالا بلا سبب يكتسبون إلا ما لا يقدرون على التناول منه لخوف الهلاك لأنه موات ، لا تنفر الطباع عنه .

ثم جعل أسباب الحل أسبابا يكتسبون مما لا يعمل في استخراج ذلك الدم المحرم منه حل أكله . وإذا لم يعمل في استخراج ذلك الدم ، فهلك فيه ، أفسده لأنه تلف فيه ما هو محرم ، فأفسده ، فاستخراج ذلك الدم مما يطيب ذلك ، ويمنع عن الفساد إلا في طول الوقت . والذي هلك فيه الدم يفسد في قليل الوقت .

وقوله تعالى : { وما أهل لغير الله به } قال الكسائي : { وما أهل لغير الله به } أي ذكر وسمي عيه غير اسم الله مشتقة من استهلال الصبي ، ومنه إهلال الهلال [ وإهلال المهل ] بالحج إذا لبى .

قال قتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها . والكافر في الحقيقة يهل لغير الله لأنه لا يعرف الله حقيقة . لكنه أجاز ذبائح الكتابي لأنه يسمي عليه اسم الله تعالى { والموقوذة } كانوا يضربون بالعصا حتى إذا ماتت ثم أكلوها { والمتردية } كانت [ تردت في بئر أو من جبل ، فماتت ] { والنطيحة } كان الكبشان يتناطحان ، فيموت أحدهما ، فيأكلونه { وما أكل السع إلا ما ذكيتم } . كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع من هذا ، وأكل منه ، أكلوا ما بقي . فقال الله تعالى : { إلا ما ذكيتم } .

ثم روي عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : { والمنخنقة والموقوذة } فما أدركت من هذا كله يتحرك بالذنب ، أو يطرق بالعين ، فاذبح ، واذكر اسم الله عليه ، فهو حلال .

وروي عن علي رضي الله عنه [ أنه ] قال : إذا طرقت بعينها ، أو ركضت برجلها ، أو حركت ذنبها ، [ فذبحها ، فهو تذكية ] وكذلك روي عن ابن الزبير أنه سمع عبيد بن عمير رضي الله عنه يقول : ذلك . وكأنه روي مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك .

وهذا ، والله أعلم ، إذا خنقها ، أو وقذها ، يغمى عليها . فإذا ذبحها ، فحركت ذنبها ، أو [ طرفت بعينها ] ، أو ركضت برجلها ، أفاقت ، فاستدل بذلك على حياتها . وليس هذا كشاة ينزع الذئب أو السبع ما في بطنها ، أو صارت بحال لا تتحامل [ فاستدل بذلك أنها حية ] وإن تحركت ، أو طرقت [ بعينها ] فإنها لا تؤكل .

وأصله أن كل ما لو [ قطعت عروقها ] ، فتركت ، فماتت ، تكون ميتة . فإذا أدركت في تلك الحال ، فذكيت كانت ذكية ، وكل ما لو [ صارت بحال ، وماتت كما ] كانت ذكية . فإذا أدركت في تلك الحال ، [ فذكيت ما ] كانت ميتة . والمتردية الممتنعة عن الذبح . الذبح إذا ذبح من غير الذبح يجوز أكله .

«روي عن [ رافع بن خديج أنه ] قال : أصبنا إبلا وغنما ، فند منها بعير ، فرماه رجل بسهم ، فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش . فإذا كان عليكم شيء منها فاصنعوا به هكذا » . [ البخاري : 3075 ] .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في البعير يتردى في البئر : إذا لم يقدر على منحره فهو بمنزلة الصيد ، ينحر من حيث أدرك .

وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بعير تردى في بئر ، فصار أعلاه أسفله ؟ فقال : ( قطعوه أعضاء ، وكلوه ) . وعن ابن عمر رضي الله عنه روي أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : هل تكون الذكاء إلا في الحلق واللبة ؟ فقال : «أما إنك لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ، وإذا ذكي بغير السكين من نحو المروة والقصبة مما يقطع يجوز » . [ أبو داوود : 2825 ] .

«وروي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : يا رسول الله أرسل كلبي ، فيأخذ الصيد ، وليس معي ما أذكيه [ به ] فأذبحه بالمروة أو القصبة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمر الدم بما شئت ، واذكر اسم الله عليه » [ أبو داوود : 2824 ] .

وكذلك روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى أن رجلا أشاط دم جزور بجدل ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : «اذبح بكل ما أفرى الأوداج ، وأهراق الدم ، ما خلا السن والظفر » [ الموطأ489 : 2 ] .

وإلى هذا يذهب أصحابنا ، رحمهم الله ، في ذلك ، ويرون كل ما أنهر الدم من حجر أو مروة أو نحو ذلك مذكى ، ويؤكل ، ويحملون قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم : «إلا السن والظفر » على أنهما إذا كانا غير منزوعين لأن ذلك خنق ، وليس بذبح . تفسير ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما حين قال : خنق . وفي الخبر بيان [ الآية ] لأنه قال : «كل ما أنهر الدم ، وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر فإنهما مدى الحبشة » [ بنحوه البخاري : 3075 ] وهم إنما كانوا يذبحون بسن أو ظفر غير منزوعة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وما ذبح على النصب } أي للنصب . قيل : كانوا يذبحون للأوثان والأصنام التي يعبدونها ؛ يتقربون بذلك إليها كما كان أهل الإسلام يتقربون بالذبائح ، يذبحونها ، إلى الله ، فحرم الله عز وجل ما كانوا يذبحون للنصب { وما أهل لغير الله به } لما ذكرنا أن الأمر به خرج مخرج قبول النعمة والشكر له في ما أنعم من عظيم النعم . فإذا أهلوا به لغير الله أي لغير وجه الله لم يقبلوا نعمة ، ووجهوا الشكر إلى غيره ، فحرم لذلك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } قيل : سهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها . وقيل : الأزلام هي القداح ، كانوا يقتسمون بها الأمور . وكان الرجل إذا أراد سفرا /123-أ/ أخذ قدحا ، فقال : هذا يأمره بالخروج ، [ فإن هو خرج ] فهو مصيب في سفره خيرا . ويأخذ قدحا آخر ، فيقول : هذا يأمره بالمكث ؛ فإن هو خرج فليس بمصيب خيرا في سفره . والمنيح بينهما . فنهى الله تعالى عن ذلك ، وأنبأ أن ذلك فسق بقوله تعالى : { ذلكم فسق } .

وإن الحسن [ أنه ] قال : كانوا يعمدوه إلى القداح ، فيكتبون على أحدها : مرني ، وعلى الآخر : انهني ، ثم يجيلونها إذا أرادوا الأمر . فإن خرج [ الذي ] عليه : مرني مضى في وجهه ، وإن خرج الذي عيه انهني لم يخرج .

قال أبو بكر الكيساني : إن ي النهي عن العمل بالأزلام دليل النهي عن العمل بالنجوم . فإذا نهي عن العمل بقول [ المستقسمين ينهى ] أيضا عن العمل بقول المنجمة لأنهم حين ما يقول أولئك ، ويعملون به . لكن المنجمة ليسوا يقولون : إن نجم كذا يأمركم كذا ، ونجم كذا ينهى عن كذا على ما كان يفعل أولئك .

ويجوز أن يكون الله عز وجل [ قد جعل ] في النجوم أعلام ومعاني يدركون بها ، ويستخرجون أشياء تحتمل ذلك ، وتكن على ما يستخرج أهل الاجتهاد بالاجتهاد أشياء من عنى النصوص وأحكاما لم تذكر في المنصوص . فعلى ذلك المنجمة يجوز أن يستخرجوا أشياء من النجوم بدلائل ومعان تكون في النجوم ، ولا عيب عليهم في ذلك ، ولا لائمة . وإنما اللائمة عليهم في ما يحكمون على الله ، ويشهدون عليه .

قال القتبي : الأزلام القداح ، واحدها زلم وزُلم . والاستقسام بها أن تضرب . فأخذ الاستقسام من القسم ، وهو النصيب ، كأنه طلب النصيب .

قال أبو عوسجة : استقسمت أي ضربت بالقداح ، قال : كأنه من القسم . وقال أبو عبيدة : إنما سمي استقساما لأنه كانوا يطلبون قسم الرزق وطلب الحوائج بها ، فكانوا يسألونها أن تقسم لهم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ذلكم فسق } يحتمل قوله : { فسق } أي العمل بالأزلام والشهادة على الله أمر ، فذلك فسق . وعلى هذا من يستجيز العمل بالقرعة ، لأنه يقول بقرع ؛ فمن خرجت قرعته يحكم له ، فإنما يحكم له بأمر القرعة ، كأن القرعة تأمره بالحكم بهذا لهذا ، وتنهاه عن الحكم بهذا لهذا ، فهو بالأزلام والقداح التي نهى الله عن العمل بذلك أشبه ، وبها أمثل من غيره .

ويحتمل قوله تعالى : { ذلكم فسق } أي التناول مما ذكر من المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب وما ذكر في أول السورة من الاصطياد في الإحرام والتناول منه ، ذلك كله فسق ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما .

وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } إنهم [ كانوا ] يطمعون دخول أهل الإسلام في دينهم وعودهم ، فأيأسهم الله سبحانه وتعالى من ذلك ، فقال : { اليوم يئس الذين كفروا من } ترككم دين الإسلام { فلا تخشوهم واخشوني } أمنهم من ذلك .

وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عيكم نعمتي } الآية . قال أبو عبيد : كان دينهم إلى ذلك اليوم ناقصا ، فحينئذ كمل دينهم . فعلى زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إلى دين ناقص ، ومن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار رضي الله عليهم ماتوا على دين ناقص ، ويحشرون يوم القيامة على دين ناقص ، وأي قول أوحش من هذا وأسمج ؟

وقال آخر من أصحابه : كان الدين كاملا إلى ذلك الوقت ، فلما بعث الله بالفرائض ، وافترض عليهم ، صار الدين ناقصا إلى أن يؤدوا الفرائض وما اقترض عليهم . فعند ذلك يكمل . فهذا القول أيضا في الوحشة والسماجة والقبح مثل الأول ، ويقال لأبي عبيد : قل أيضا : إنه لم يكن رضي لهم بالإسلام قبل ذلك رضا .

والأصل في تأويل الآية [ في ] وجوه :

أحدهما : { اليوم أكملت لكم دينكم } أي برسوله وببعثه { أكملت لكم دينكم } وبه أتممت { عليكم نعمتي } .

[ والثاني ] : قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } أي اليوم أظهرت لكم دينكم ، ولم يكن قبل ذلك ظاهرا حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين » [ الطبراني في الكبير : 11056 ] وقال : «ألا لا يحجن بعد العام مشرك » [ البخاري : 369 ] وذلك لظهوره ولغلبة أهل الإسلام عليهم وأنه لم يكن هذا قبل ذلك .

[ والثالث ] : قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } لما أمنوا من العدو والعود إلى دين أولئك وإياس أولئك من رجوعهم إلى دين الكفر . وأي نعمة أتم وأكمل من الأمن من العدو ؟ ويقول الرجل : اليوم تم ملكي إذا أهلك عدوه ، ولأمنه من عدوه ، وإن كان لم يوصف ملكه قبل ذلك بالنقصان . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

[ والرابع : قوله ] : { اليوم أكلمت لكم دينكم } أي أمر دينكم بما أمروا وشرائع ، لم يكونوا أمروا بها قبل ذلك . وهذا جائز .

وقوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام دينا } أي أكرمتكم بالدين المرضي ، وهو الإسلام ، كقوله تعالى : { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ] .

وقوله تعالى : { غير متجانف لإثم } قال بعضهم : { غير متجانف لإثم } أي متعمد لإثم ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما . وقال الكيساني : { غير متجانف } غير متمايل ، والجنف الميل . وكذلك قال القتبي . وقال أبو عوسجة أيضا : الجنف الميل .

ثم قوله تعالى : { غير متجانف لإثم } يحتمل [ وجوها :

أحدهما ] : قيل : { غير متجانف } غير مستحل أكل الميتة في حال الاضطرار وما حرم عليه التناول من الصيد وقيل : غير متلذذ ولا مشته ؛ يتناول على التكره منه لا على التلذذ والشهوة . وقيل أيضا : إنه لا يتناول إلا في حال الاضطرار كقوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 والأنعام : 145 والنحل : 115 ] وتفسير قوله تعالى : { اضطر } هذا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { إن الله غفور رحيم } أي من رحمته : أي جعل لكم التناول من المحرم ، ورخص لكم ؛ إذ له أن يترككم تموتون جوعا كقوله تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } الآية [ النساء : 66 ] .