تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

وقوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } يحتمل قوله : { اليوم } [ كونه ] حرف افتتاح يفتتح [ به ] الكلام لا إشارة إلى وقت مخصوص على ما ذكرنا في قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] وقد يتكلم باليوم لا على إشارة وقت مشار إليه ، وهو ، والله أعلم ، ما حرم عليهم من ثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين }[ الآية : 143 ] إلى آخر ما ذكر ، ثم قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها } الآية [ الأنعام : 146 ] وما حرموا هم على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها من المحرمات التي كانت ، فأحل الله ذلك ، فقال : { اليوم أحل لكم الطيبات } وكانت محرمة عليهم ، قيل ذلك .

لكن أهل التأويل صرفوا الآية إلى الذبائح ، لم يصرفوا إلى ما ذكرنا : المعنى الذي به صارت الذبائح طيبات في ما تقدم .

وقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وعن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } أي ذبائحهم { حل لكم } وذبائحكم /124-أ/ { حل لهم } إلى هذا حمل أهل التأويل . فإن قيل : أليس جعل ذبائحنا محللة لهم وذبائحهم محللة لنا ، ثم يحل ذبائحنا لهم ولغيرهم ؟ كيف لا حل ذبائحهم وذبائح غيرهم وهي ذبائح المجوس ؟ قيل : حل الذبائح شرعي ، وليس للمجوس كتاب آمنوا به ، فيحل ذبائحهم . وأما أهل الكتاب فإنهم آمنوا بما أنزل الكتاب : حله وحرمته ، لذلك افترقا ، والله أعلم .

والآية على قول أصحاب العموم توجب جميع طعامنا لهم لأنه قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } فعلى قولهم لكل واحد من الفريقين أن يتناول طعام الفريق الآخر . دل أن مخرج عموم اللفظ لا يوجب الحكم عما للفظ ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } اختلف فيه ؛ قال بعضهم { والمحصنات } أراد به الحرائر ، وقال آخرون : أراد به العفائف منهن غير زانيات كقوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة [ النور : 3 ] نهى عن نكاح الزانيات ، ورغب في نكاح العفائف ، وهذا أشبه من الأول لأنه قال في آخر الآية : { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } دل هذا على أنه أراد بالمحصنات العفائف منهن لا الحرائر . ودلت الآية على حل نكاح الحرائر من الكتابيات . وعلى ذلك اتفاق أهل العلم . لكن يكره ذلك .

روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره تزوجهن فهذا عندنا على غير تحريم منه لتزوجهن . ولكن رأى تزوج المسلمات أفضل وأحسن لمشاركتهن المسلم في دينه .

وروي عن عمر رضي الله عنه كرهه ذلك ؛ وذلك لأن حذيفة رضي الله عنه تزوج يهودية ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يأمره بطلاقها ؛ ويقول : كفى بذلك فتنة للمسلمات . فهذا أيضا لا على سبيل التحريم ، ولكن لما ذكر من الفتنة فتنة المسلمات .

فأصحابنا ، رحمهم الله تعالى ، يكرهون أيضا تزوج الكتابيات ، ولا يحرمونه .

واختلف أهل العلم في تزوج إمائهن ؛ فتأول قوم قول الله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } على الحرائر ، وتأوله آخرون على العفائف . وقد ذكرنا أن صرف التأويل إلى العفاف أشبه بدلالة قوله تعالى : { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } مع ما لو كانت المحصنات ههنا هن الحرائر لم يكن فيه حظر نكاح الإماء الكتابيات لأن إباحة نكاح الحرائر من الكتابيات . وليس في إباحة شيء في حال حظر غيره [ تحريم ، وقد ] ذكرنا الوجه في ذلك في ما تقدم .

فالمجوسية ليست عندنا من أهل الكتاب ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلنه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } [ الأنعام : 155 ، 156 ] فأخبر الله تعالى أن أهل الكتاب طائفتان ، فلا يجوز أن يجعلوا ثلاث طوائف ؛ وذلك خلاف ما دل عليه القرآن .

ألا ترى أن رجلا لو قال : إنما لي عليك يا فلان درهمان ، لم يكن له أن يدعي عليه أكثر من ذلك . ولو قال : إنما لقيت اليوم رجلين ، وقد لقي ثلاثة ، كان كاذبا ؛ لأنه قوله : إنما لقيت رجلين كقوله : لقيت اليوم رجلين . ولا يجوز مثل هذا في أخبار الله تعالى لأنه الصادق في خبره عز وجل ؟

فإن قيل : هذا شيء حكاه الله عز وجل عن المشركين ، وقد يجوز أن يكونوا غلطوا ، فحكى الله تعالى عنهم ما قالوا . قيل له : لم يحك الله تعالى هذا القول عن المشركين ، ولكن قطع بالقرآن عذرهم ، فقال : [ { إنما أنزل الكتاب } لئلا يقولوا : أنزل ] الكتاب { على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين } فهذا كلام الله واحتجاجه على المشركين ، وليس حكاية عنهم .

ومن الدليل أن المجوسي ليس من أهل الكتاب ما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في مجلس بين القبر والمنبر : ما أدري كيف أصنع بالمجوس ، وليسوا بأهل الكتاب ؟ فقال عبد الرحمان بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب » [ الطبراني 19 : 437 رقمه 1059 ] صرح عمر رضي الله عنه بأنهم ليسوا أهل الكتاب ، ولم ينكر عبد الرحمان ذلك عليه ولا أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فلو كانوا أهل كتاب لم يقل : سنوا بهم سنة أهل الكتاب .

وكذلك «روي عن الحسن بن محمد أنه قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر ، فقال : أدعوكم إلى الشهادة : أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، ومن أبى فعليه الجزية ، غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نساءهم » إلى هذا ذهب أصحابنا ، رحمهم الله ، في قولهم : إن المجوس ليسوا بأهل كتاب .

وأما نصارى بني تغلب فإن عليا رضي الله عنه قال : لا تحل ذبائح نصارى العرب فإنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقرأ : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [ البقرة : 78 ] وقال ابن عباس رضي الله عنهما تؤكل ، وقرأ : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } [ المائدة : 51 ] .

والآية الأولى تدل على أنهم أهل كتاب لأن الله عز وجل قد جعلهم منهم بقوله { ومنهم أميون } [ البقرة : 78 ] فحكمهم حكمهم ؛ إذ أخبر الله عز وجل أنهم منهم . ومما يدل على ذلك أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : «لا يتخلجن في صدرك طعام ضارعت فيه النصرانية » [ التزمذي : 1565 ] لأنه عم فيه النصارى ، فدخل فيه عربهم وعجمهم لأنهم دانوا بدينهم . وكل من دان بدين قوم فهو منهم .

ومن الدليل على أن العرب ، إذا دانوا بدين أهل الكتاب فهم من أهل الكتاب ، أن العجم لما أسلموا صار حكمهم حكم عرب أهل الإسلام . فإذا ارتد أحد منهم ، وسأل [ سائل هل تؤخذ منه ] الجزية كما تؤخذ في الابتداء [ من المجوس ] لم يجب إلى ذلك ، وقيل له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل ؛ فهو بمنزلة عربي مسلم لو ارتد عن الإسلام . فلما كان حكم العجمي إذا دان بدين النبي صلى الله عليه وسلم حكم العرب وجب أن يكون حكم العربي إذا دان بدين العجمي من أهل الكتاب أن يجعل حكمه حكمهم ، وبالله بالتوفيق .

وقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن } وقد يحللن لنا إذا لم نؤت أجورهن . دل ذكر الحكم في حال لا يوجب حظره في حال أخرى ، فهو دليل لنا في جواز نكاح الإماء من أهل الكتاب ، وإن ذكر ي الآية المحصنات .

وقوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } الآية ؛ أي ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به ، وهو المؤمن به أي الله ، لأنه يكفر بالإيمان ، ولكن يؤمن به ، وهو كقوله تعالى : { حتى يأتيك اليقين } [ الحرج : 99 ] أي الموقن به . فعلى ذلك الأول ؛ معناه من يكفر بالذي عليه الإيمان به ، وهو المؤمن به ، { فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين } والله العصمة والهداية .