الآية 1 : قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } فإنه يخرج على الإضمار ، والله أعلم ، كأنه يقول : يا أيها النبي قل لأمتك : إذا أردتم أن تطلقوا نساءكم فطلقوهن لعدتهن .
والدليل على أنه هكذا فإنه يخرج الخطاب بعده للجماعة حين {[21425]} قال : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أو خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وذلك كثير في القرآن .
ثم قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أمر بالطلاق للعدة ، ولم يبين أن الطلاق للعدة كيف يكون ، وذكر في بعض القراءات : فطلقوهن لقبل عدتهن{[21426]} .
ثم ترك بيان ذلك لا يخلو : إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك لهم ، فعرفوا ذلك ، فلم يبين ذلك في الآية . [ وإما أن ] {[21427]} جعل بيان معرفة ذلك إليهم ليعرفوا بالاجتهاد .
ثم قوله : لقبل عدتهن يحتمل أول عدتهن ، وهو الحيض ، من المقابلة :
فمن يقول : الاعتداد بالإطهار يجعل القبل كناية عن أول الطهر ، ومن يقولها بالحيض يجعل القبل ما يقابل العدة ، وهو الحيض .
ثم لنا أن ننظر أي التأويلين أقرب ، وقد أجمعوا أن له أن يطلقها في آخر الطهر إذا لم يجامعها / 584 –ب/فيه . دل أن تأويل القبل ما يقابل العدة أحق ، وهو الحيض ، والاعتداد به أولى ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { أحصوا العدة } يخرج على هذين الوجهين :
أحدهما : احفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة ، فأدّوها .
والثاني : احفظوا نفس ما تعتدون به ، وهو عدد الحيض الذي به{[21428]} تعتدون ، لا أن يزاد ، ولا ينقص .
ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم هم الذين يلزمهم الحقوق والمؤن .
والثاني : لهم نفع تحصين الأولاد في العدة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } دل قوله : { من بيوتهن } على صحة مسألة لأصحابنا ، رحمهم الله ، في من حلف : لا يدخل بيت فلان ، فدخل [ بيتا ]{[21429]} هو فيه بإعارة أو إجارة : إنه يحنث ، ووجه ذلك أن الله تعالى أضاف البيوت إليهن ، وإن كانت حقيقة الملك للأزواج .
ألا ترى إلى قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } : [ الطلاق : 2 ] ثم قوله{[21430]} : { لا تخرجوهن من بيوتهن } فدل قوله : { من بيوتهن } أنه أراد به البيوت التي أسكنهن الأزواج فيها . وإذا صحت هذه الإضافة دل على صحة المذهب .
وقال الشافعي في من حلف : لا يدخل مسكن فلان ، فدخل مسكنا [ هو ] {[21431]} فيه بإعارة : إنه يحنت . وقال في من حلف : لا يدخل مسكن فلان [ فدخل ] {[21432]} : إنه لا يحنث ، واحتج في المسكن أنه إنما حنث لأنه وجد حقيقة السكنى المحلوف عليه .
فإن كان هذا هو الدليل على الحنث فالواجب عليه أن يحنث [ في البيت ]{[21433]} لوجود البيتوتة على حنته {[21434]} في المسكن لوجود السكن .
وبعد فإن الحنث أقرب في البيت لأن الله تعالى أضاف البيوت إليهن في كتابه ، وإن كن يبتن فيها بإعارة ، ولم يوجد في السكنى ذلك ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ومبينة ، قرئا {[21435]} جميعا . فمنهم من حمل الاستثناء ، وهو قوله : { إلا } على قوله : { لا تخرجوهن من بيوتهن } وصرفه [ إليه ، ومنهم من صرفه ] {[21436]} إلى قوله : { ولا يخرجن } ولكل من ذلك وجهان :
فأما من حمله على قوله : { لا تخرجوهن } فإنه جعله استثناء ، وللاستثناء وجهان :
أحدهما : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي بزنى يزنين ، فتخرجوهن لإقامة الحد عليهن .
[ والثاني ]{[21437]} : { ولا يخرجن إلا أن } يظهر منهن بذاءة اللسان على أهل أزواجهن ، فتخرجوهن لمكان البذاءة التي في ألسنتهن{[21438]} .
ومن حمله على قوله : { ولا يخرجن } فإنه يجعل معنى قوله : { إلا } على معنى : لكن كما قيل تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } [ مريم : 62 ] أي لا يسمعون فيها لغوا لكن سلاما ، إذ لا يحتمل استثناء السلام من اللغو لما ليس في جملة اللغو سلام ، فيستثنى منه ، فكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة } فكأنه قال : { ولا يخرجن } ولكن إذا خرجن فخروجهن فاحشة .
ويدل هذا على أن النهي لنفس الخروج لا للانتقال .
ووجه أخر في ذلك ، وهو ألا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة ، فإنهن إذا خرجن يخشى عليهن أن يأتين بفاحشة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلام أنه قال : ( ( أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ) ) [ الترمذي 1111 ] لما {[21439]} كان المعنى من ذلك أنه إذا تزوج ، فوطئ ، فهو عاهر ، ولكن نهي عن النكاح لأنه يخشى عليه في النكاح أن يطأها ، فيصير عاهرا ، لا أن يكون نفس التزوج منه زنى .
فكذلك : { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة } فيكون النهي لا عن نفس الخروج ، ولكن لكونه سببا للفاحشة في الجملة وطريقا إليه .
وقوله {[21440]} عليه الصلاة والسلام : { مبينة } فمن قرأ { مبينة } بالخفض فمعناه أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها المرء ، ونظر ، تبين له أنها فاحشة . ومن قرأ : مبينة بالفتح عنى به أنها بالبراهين والحجج .
وقوله تعالى : { وتلك حدود الله } الحدود الموانع والنواهي ، لا تحل مجاوزتها ، ومن ذلك سمي الحداد حدادا لأنه يمنع تحديده كل أنواع أمتعته أن تجاوز حدها الذي جعله لها .
والحد في الحقيقة هو النهاية التي ينتهي إليها ، فلا تجاوز . وإذا كان كذلك كان الخيار إلى صاحب التأويل ، فإن شاء حمله على الحد بين الطاعة والمعصية أو ما بين الحلال والحرام حين{[21441]} ذكر في هذه الآية أنواعا من النهي ، فسمى ذلك كله حدودا .
وقوله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } أي ضر نفسه . ويجوز أن يكون المعنى منه : أي إن جاوز هذا الحد الذي جعله الله تعالى فقد وضع نفسه مكانا لم يضعه فيه ربه .
والظلم في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه .
والتأويل الآخر أن من جاوز موانع الله ونواهيه فقد ظلم نفسه ؛ دل بهذا على أن منافع هذه النواهي ومضارها ، لا ترجع إلى الله بل [ ترجع إلى ] {[21442]} نفس الممتحنين .
وقوله تعالى : { لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا }أي لا يطلق ، فإنه إذا طلق لا يدري ، لعل الله يحدث بعد ذلك ندامة على[ ما ]{[21443]} سبق من فعله أو رغبة فيها ، فيكون فيه دلالة النهي عن نفس الطلاق . وقد بينا كراهة نفس الطلاق في الحكمة في أنه ليس من نوع ما يتقرب به ، فيكون فيه زيادة في الاستمتاع .
بل المقصود منه التأديب والمخلص .
وفي الواحدة كفاية عما زاد عليها ، فكان في هذه الآية دلالة النهي عن نفس الطلاق وعن الزيادة على الواحدة ، والله أعلم .
قال : فإن كان تأويل قوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } هو الرغبة فيها أو الندامة على ما سبق فإنه دلالة على إبطال قول المعتزلة ، لأن الرغبة والندامة جميعا من فعل العباد ، والله تعالى قد أضاف ذلك إلى نفسه بقوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .
وإذا كان كذلك ثبت أن لله تعالى في إحداث أفعال العباد صنعا وتدبيرا ، والله أعلم .
وقال أصحاب الشافعي : إن قوله : { فطلقوهن } يدل على تعليم الوقت في الطلاق دون العدد ؛ فله أن يطلقها في الوقت أي عدد كان .
ولا يستقيم ذلك لأن التأويل إنما يستقيم على أحد وجهين :
إما على ما جرى به التفاهم في العبادات بين العباد ، وإما [ على ]{[21444]} ما جرى به التفاهم في حق الحكمة .
وليس يفهم من قوله : { فطلقوهن } بالعدد الثلاث على واحد من الوجهين اللذين وصفناهما .
ألا ترى أن من قال لآخر : طلقت{[21445]} امرأتي لم يجز له أن يطلقها ثلاثا إلا أن يكون نوى ثلاثا ؟ فثبت أنه لا يفهم به في عبارة اللفظ الثلاث .
وأما وجه الحكمة فلما ذكرنا أن الطلاق ليس مما يتقرب به ، فيرغب {[21446]} في الاستكثار زيادة في القربة ، ولا مما يستمتع[ به ]{[21447]} فيستكثر منه زيادة في الانتفاع . وإنما المراد منه التأديب والمخلص . وما كان مخرجه هذا المخرج كان في حد الرخصة ، وما خرج مخرج الرخص لم يتعد{[21448]} به عما وقعت به الرخصة . وإذا ثبت ما وصفنا ثبت أنه لا يجوز الفهم من قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } الثلاث ، والتعليم{[21449]} في العدد أليق به من الوقت ، لأنه لا ضرر ، يلحقه في تعديه عن الوقت المجعول فيه الطلاق ، ولا شك أنه يلحقه الضرر في تعديه في العدد والزيادة منه ، والله أعلم .
ومما يدل على أن المراد من قوله : { فطلقوهن } ليس عدد الثلاث قوله : { فإذا بلغن/575-أ/أجلهن فأمسكوهن بمعروف } [ الآية : 2 ] ولا شك أنه إذا وقع عليها ثلاثا لم يملك إمساكها .
ومعلوم أن قوله : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } الطلاق المتقدم من قوله { فطلقوهن } ولو كان المراد عدد الثلاث لم يكن لقوله : { فأمسكوهن بمعروف } معنى ، والله أعلم .