الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ} (35)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لهؤلاء المشركين "هَلْ مِنْ شُركائِكم "الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانهم، "مَنْ يَهْدِي إلى الحَقّ" يقول: من يرشد ضالاّ من ضلالته إلى قصد السبيل، ويسدّد جائرا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون أن يدّعوا أن آلهتهم وأوثانهم ترشد ضالاّ أو تهدي حائرا. وذلك أنهم إن ادّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة وأبان عجزها عن ذلك الاختبار بالمعاينة، فإذا قالوا: لا، وأقرّوا بذلك، فقل لهم: فالله يهدي الضالّ عن الهدى إلى الحقّ، "أفَمَنْ يَهْدِي" أيها القوم ضالاّ إلى الحَقّ وجائرا عن الرشد إلى الرشد "أحَقّ أنْ يُتّبَعَ" إلى ما يدعو إليه "أمْ مَنْ لا يَهْدِي إلاّ أنْ يُهْدَىَ؟"

واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة: «أمْ مَنْ لا يَهْدّي» بتسكين الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين. وكأن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم مَن لا يهتدي، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرروا وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقرّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشدّدوا الدال طلبا لإدغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: «وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدّوا في السّبْتِ» وفي قوله: "يخَصّمونَ".

وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والشام والبصرة: «يَهَدّي» بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمّوا ما أمّه المدنيون من الكلمة، غير أنهم نقلوا حركة التاء من «يهتدي» إلى الهاء الساكنة، فحرّكوا بحركتها وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: يَهِدّي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، بنحو ما قصده قرّاء أهل المدينة غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من «يهتدي» استثقالاً للفتحة بعدها كسرة في حرف واحد. وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين: «أمْ مَنْ لا يَهْدِي» بتسكين الهاء وتخفيف الدال، وقالوا: إن العرب تقول: هديت بمعنى اهتديت، قالوا: فمعنى قوله: أم مَنْ لا يَهْدِي: أم من لا يهتدي إلاّ أنْ يُهْدَى.

وأولى القراءة في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: «أمْ مَنْ لا يَهَدّي» بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب وفيهم المنكر غيره، وأحقّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلام الله تبارك وتعالى.

فتأويل الكلام إذا: أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يُهْدَى.

وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن ينقل...

وقوله: "فمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ": ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهديه إليه هاد غيره، فتتركوا اتباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البرّ والبحر وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) يحتمل قوله: (يهدي إلى الحق) يدعو إلى الحق. فإذا كان هؤلاء الأصنام التي تعبدونها لا يملكون الدعاء إلى شيء، ولا يملكون الضر والنفع، ومن الخلائق من لا يملك النفع والضر، ويملك الدعاء إلى خير أو إلى نفع، فهؤلاء دون الخلائق جميعا؛ إذ لا يملكون نفعا ولا ضرا، فكيف يملكون الدعاء إلى شيء؟ يبين عز وجل سفههم بعبادتهم هؤلاء الأصنام ليعلمهم أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا. ويحتمل قوله (من يهدي إلى الحق) أي يبين، ويقيم الدلائل والبراهين على استحقاق العبادة لهم؟ فإذا لم يملكوا الدعاء إلى العبادة لهم فكيف يملكون نصب الدلائل والحجج على استحقاق العبادة؟...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... أفمن يهدي غيره إلى طريق التوحيد والحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي هو إلا أن يُهدَى... فإن قيل: هذه التي اتخذوها آلهة لا تهتدي وإن هديت لأنها موات من حجارة وأوثان ونحو ذلك!؟ قيل: تقدير الكلام على أنها إن هديت اهتدت وإن لم تكن في الحقيقة كذلك لأنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عن الذي يجب له العبادة، كما قال "ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون وقال "ان تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم "فأجرى عليه اللفظ كما يجري على من يعلم، كأنه قال أم من لا يهدي إلا أن يُهدى، أي أم من لا يعلم حتى يعلم، ومن لا يستدل على شيء حتى يدل، وإن كان لو دل أو أعلم لم يعلم ولم يستدل. وأراد الله بذلك تعجيبهم من أنفسهم وتبيين جهلهم وقلة تمييزهم في تسويتهم من لا يعلم ولا يقدر بالله القادر العالم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

يقال: هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين: ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى اشترى. ومنه قوله: {أَمَّن لاَّ يَهِدِّى}... ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدي للحق، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداداً لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير، يهدي إلى الحق مثل هداية الله. ثم قال: أفمن يهدي إلى الحق هذه الهداية أحقّ بالاتباع، أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه، أو لا يهدي غيره إلاّ أن يهديه الله وقيل: معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه {إِلاَّ أَن يهدى} إلاّ أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصحّ منه الاهتداء إلاّ أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بالباطل، حيث تزعمون أنهم أنداداً لله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة في القرآن، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {الذي خلقني فهو يهدين} وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده} أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية.

واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم، وأيضا فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى- حصول الهداية.

إذا ثبت هذا فنقول: العقول مضطربة والحق صعب، والأفكار مختلطة، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام... {رب اشرح لي صدري} وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى.

إذا عرفت هذا فنقول: الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة، وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية، ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى. وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلا محضا وسفها صرفا، فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أي: أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يهدي الحيارى والضلال، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله، الذي لا إله إلا هو.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فلما فرغ مما يتعلق بأحوال الجسد، أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال: {قل} أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود {هل من شركائكم} أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم {من يهدي} أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين {إلى الحق} فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً.

ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يهدي} ولما كان قادراً على غاية الإسراع، عبر باللام فقال: {للحق} إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك: ذكر {إلى الحق} أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، و {للحق} ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال: {أفمن يهدي} أي منتهياً في هداه ولو على بعد {إلى الحق} أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه {أحق أن يتبع} أي بغاية الجهد {أم من لا يهدي} أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه {إلا أن يهدى} أي يهديه هاد غيره كائناً من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل: أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم على وجه التوبيخ بقوله: {فما} أي أيّ شيء ثبت {لكم} في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال: {كيف تحكمون} فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء:العقل الأول؛ والإعادة: إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية: التعريف بطريق الرشد من الغي.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}؟ هذا سؤال عن شأن آخر من شؤون الربوبية المقتضية لاستحقاق الألوهية وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية، وهو الهداية التي تتم بها حكمة الخلق كما يدل عليه ذكرها عقبه في آيات أخرى كقوله تعالى: {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} [الطارق: 2، 3] وهي أنواع هداية الفطرة والغريزة، وهداية الحواس، وهداية العقل، وهداية التفكر والاستدلال بكل ذلك، وهداية الدين، وهو للنوع البشري في جملته كالعقل لأفراده، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبيله ومنع الصوارف عنه. ولما كان لا يمكنهم أن يدّعوا أن أحدا من أولئك الذي أشركوهم في عبادة الله تعالى بادعاء التقريب إليه والشفاعة عنده يهدي إلى الحق من ناحية الخلق والتكوين، ولا من ناحية التشريع، لقن الله رسوله الجواب بقوله:

{قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} فعل الهدى يتعدى بنفسه كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] {ويهديك صراطا مستقيما} [الفتح: 2] {لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]، ويتعدى بإلى كقوله: {وهديناهم إلى صراط مستقيم} [الأنعام: 87] {ويهدي إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] {يهدي إلى الرشد} [الجن: 2] {واهدنا إلى سواء الصراط} [ص: 22]، وباللام كقوله: {الحمد لله الذي هدانا لهذا} [الأعراف: 43] {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} [الحجرات: 17]، فتعديته بنفسه تفيد اتصال الهداية بمتعلقها مباشرة، وتعديته باللام تفيد التقوية أو العلة والسببية، وبإلى للغاية التي تنتهي إليها الهداية، فهي تشمل مقدماتها وأسبابها، من حيث كونها موصلة إلى المنتهى المقصود للهادي السائق إليها، وقد يكون قصده مجهولا لمطيعه كقوله تعالى في الشيطان {كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} [الحج: 4]، وكل من هذه الثلاث مستعمل في التنزيل في موضعه اللائق به، يعلم ذلك من له ذوق سليم في هذه اللغة الدقيقة العالية، وقد جمع في هذه الآية بين التعدية بالحرفين وبين ترك التعدية- وهو حذف المتعلق الدال على العموم- وكل منها وقع في موقعه الذي تقتضيه البلاغة، فهاكه، فلم نر أحدا بينه.

أما الأول فقد عداه بإلى في حيز الاستفهام الإنكاري للإيذان بأنه لا أحد من هؤلاء الشركاء المتخذين بالباطل يدل الناس على الطريق الذي ينتهي سالكه إلى الحق من علم وعمل وهو التشريع، فهو ينفي المقدمات ونتائجها، والأسباب ومسبباتها، ولو عداه بنفسه لما أفاد إلا إنكار هداية الإيصال إلى الحق بالفعل، دون هداية التشريع الموصلة إليه، ولو عداه باللام لكان بمعنى تعديته بنفسه إن كانت اللام للتقوية، أو لإنكار هداية يقصد بها الحق إن كانت للتعليل، والأول أعم وأبلغ كما هو الظاهر.

وأما الثاني -وهو تعديته باللام -فهو يستلزم الأول، وإذا جرينا على جواز استعمال اللام بمعنييها -على مذهبنا الذي اتبعنا فيه الإمامين الشافعي وابن جرير- يكون معناه قل: الله يهدي لما هو الحق؛ لأجل أن يكون المهتدون به على الحق.

وأما الثالث -أي حذف المتعلق- فهو في الشق الثاني من قوله: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى}. قرأ (يهدي) يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال، وأصله يهتدي كما سيأتي في بحث لغة الكلمة، وقرأها حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمي، ومعنى القراءتين مع ما قبلهما نصا واقتضاء: أفمن يهدي إلى الحق ويهدي له ويهديه- وهو الله تعالى- أحق أن يتبع فيما يشرعه أم من لا يهدي غيره، ولا هو يهتدي بنفسه، ممن عبد من دونه إلا أن يهديه غيره -أي الله تعالى- إذ لا هادي غيره؟ وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال، لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى ابن مريم، وعزيرا، والملائكة عليهم السلام، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه، كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} [الأنبياء: 73]، وقال النحاس: الاستثناء منقطع كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج أن يسمع، فمعنى (إلا أن يهدى) لكنه يحتاج أن يهدى ا ه. فيالله العجب من هذه البلاغة التي يظهر للمدققين في تعبير القرآن من بدائعها في كل عصر ما فات أساطين بلغاء المفسرين فيما قبله.

{فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا تعجيب من حالهم في جعلهم من هذه حالهم من العجز المطلق شركاء مع القادر على كل شيء، وأورده باستفهامين تقريعيين متوالين، والمعنى: أي شيء أصابكم وماذا حل بكم حتى اتخذتم شركاء هذه حالهم وصفتهم فجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا هادي لكم ولا لأحد منهم سواه؟ كيف تحكمون بجواز عبادتهم، وبما زعمتم من وساطتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه؟

ومن القراءات اللفظية التي لا يختلف بها المعنى قراءة يهدّي المشددة الدال بفتح الياء والهاء بنقل حركة التاء في أصلها (يهتدي) إلى الهاء وإدغامها فيها، وقراءتها بكسرهما معا، فالهاء لالتقاء الساكنين والياء لمناسبتها لها، وقراءتها بفتح الياء وكسر الهاء لمناسبة الدال وهي قراءة حفص التي عليها أهل بلادنا.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمراد بالحق: الدين، وهو الأعمال الصالحة، وأصوله وهي الاعتقاد الصحيح.